كبرياء السودان الخلاوي
الخلاوي في السودان
الخلوة في السودان هي أساس المعرفة والعلم وتنشئة الأجيال، من نزول وحي السماء إلى الأرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى عهدنا الحاضر. فهي المدرسة الأولى التي يلتحق بها طلاب العلم والمعرفة، يتعلّمون فيها القراءة والكتابة، ويحفظون القرآن الكريم، ثم يكون تعلّمهم العلوم الأخرى بعد حفظهم لكتاب الله الكريم، هكذا كانت حال المسلمين إلى وقت قريب.
الخلوة تتبع نظام التعليم الفردي، الذي يمثِّل فيه كل طالب وحدة أو فصلاً قائماً بذاته غير مرتبط بالآخرين في مقدار ما يتحصل عليه من حفظ للقرآن الكريم، أي لا توجد فوارق زمنية (فصل أولى، ثانية، ثالثة)، بل كل طالب يسير قدر طاقته في الاستيعاب والحفظ.
الخلوة تستخدم الطريقة الكلية في التعليم، وذلك ببسط الكل قبل تحليل أجزائه وبعد الإدراك والإحاطة بالمجمل يتم شرح الأجزاء، وهذا يفسر حفظ القرآن الكريم دون شرحه ومعرفة أحكامه في الخلاوى. كما تأخذ بالاقتصاد على تعليم مادة واحدة في الوقت الواحد، وبعد الانتهاء من المادة يتم الانتقال إلى الأخرى، كما أنَّ الخلوة لا تعرف حدّاً لعدد الملتحقين بها كما لا تعرف عدداً من السنوات للبقاء بها.
وتعتمد الخلوة على نظام المعلم الواحد، فالشيخ يمكن أنْ يشرف على عدد من الطلاب قد يصلون إلى المائة بمعاونة المتقدمين من الطلبة في القراءة له في التدريس، حيث يتم توزيع الطلبة الجدد على الطلبة المتقدمين في الدّراسة ليقوموا بتدريس إخوانهم. كما يشرف الشيخ على هؤلاء المتقدمين في الدراسة مع مراقبة قراءة إخوانهم. وهذه الطريقة قد أثبتت نجاحها وأعطت ثماراً طيبة في معرفة المسلمين لحفظ القرآن الكريم طوال القرون السابقة.
وتبدأ القراءة في الخلوة بتدريس الحروف نطقاً وخطاً، والوسائل المستعملة هي: اللوح من الخشب، ونواة التمر، وقلم البوص، ويكتب الطالب على التراب، ويكتب له الشيخ الحروف بنواة التمر على اللوح لكي يتبع أثر النواة ويقلّد كتابة شيخه على اللوح بالمداد الأسود.
شيخ الخلوة يحدّد لكل طالب المقدار الذي يناسبه من الآيات القرآنية ليحفظها حسب ذكائه، وللمشايخ تقسيمات في هذا المجال:
الخَرُوَبة: مقدار من القرآن يساوي 1/16 من الجزء.
الثُمُن: مقدار من القرآن يساوي 1/8 من الحزب، ضعف الخروبة.
المَقْرَة: مقدار من القرآن يساوي 1/4 من الحزب، وتُسمَّى كذلك ربع حزب، وهو ضعف الثمن.
الثلث: مقدار من القرآن يساوي 3/8، أي ثلاثة أثمان الحزب.
مراحل القراءة تتمثّل في الرّمية والمطالعة، فالرّمية هي الإملاء، وذلك بأنْ يُملّئ الشيخ على الطالب الآيات المحدودة، وبدوره يكتبها على لوحه ذلك بعد كتابتها على الأرض، للتأكُّد من صحة الإملاء، وبعد أنْ يتقدّم الطالب في القراءة وتكتمل عنده قواعد الإملاء (الرسم القرآني) ينتقل إلى مرحلة المطالعة، وفي هذه المرحلة يحفظ الطالب ما يريد أنْ يكتبه في اللوح ويسمّعه للشيخ أولاً، ثم بعد ذلك يقوم الطالب بكتابة هذه الآيات على لوحه.
عمل الشيخ في التدريس ومتابعة القراءة
يتمثّل عمل الشيخ في الآتي:
الرّمية: الإملاء، وهذا في الصباح (الضّحى).
صَحّة القلم: تصحيح الرّسم "الإملاء"، وهذا في الصباح أيضاً.
صحة الخشم: تصحيح النطق، حيث يصحِّح الشيخ للطالب نطقه، وهذا في الظهرية.
صحة المطالعة: تصحيح النُّطق للآيات التي يريد أنْ يكتبها الطالب غداً، هذا في فترة العصرية.
العرضة: تسميع الطالب لوحه لشيخه، وهذا غالباً في المغربية والدغشية، وقد يكون عند قراءة السبع كذلك.
وطريقة حفظهم للقرآن الكريم أنْ يبدأ أولاً معرفة القراءة والكتابة بمعرفة حروف الهجاء (أ، ب، ت، ث، ج، ....)، وبعد حفظها ومعرفة كتابتها على الأرض بمتابعة الشيخ وتقفي أثر كتابته ينتقل الطالب إلى الكتابة على اللوح، وذلك بأنْ يكتب الشيخ على اللوح الحروف الهجائية بنواة التمر، ويقصّ أثره الطالب بالقلم، وبعد إتقان هذه المرحلة تماماً وحفظ الحروف ينتقل إلى معرفة الحركة من: فتحة، وضمَّة، وكسرة، وشدّة، وذلك لقراءة: (بَ بِ بُ بْ)، ثم ينتقل إلى معرفة التنوين (بً بٍ بٌ بْ)، ثم معرفة حروف المدّ، ثم الانتقال إلى كتابة الفاتحة على لوحه وحفظها، وهكذا ينتقل من سورة إلى سورة حسب مقدرته على الحفظ إلى سورة البقرة، ويُسمُّون هذه "الشّقة"، ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى، وهي قراءة القرآن وكتابته على اللوح بدءاً من سورة البقرة إلى سورة يس، ويُسمُّون هذه العودة "المرّة"، ثم يبتدئ أيضاً من البقرة وإلى سورة الناس، ويُسمُّونها العودة العامة.
ويختلف الطلاب في استيعابهم حسب مقدرتهم العقلية على حفظ القرآن الكريم، فمنهم من يكتفي بهذه العودة ويكون قد أكمل حفظ القرآن الكريم، ومنهم من يحتاج إلى عودة أخرى حتى يتمّ له الحفظ.
العام الدراسي في الخلوة يساوي أحد عشر شهراً، إذ يعطى الطلاب عطلة في العيدين فقط، تقدّر بشهر واحد، ويبدأ اليوم الدراسي من قبل الفجر، وينتهي عند العاشرة مساءً يتخلّله بعض فترات الرّاحة وأهمّها منتصف النّهار "القيلولة" التي تنتهي عند صلاة الظهر.
خلاوى القرآن بولاية الجزيرة في الماضي:
يبدو أنَّ خلاوى القرآن الكريم قد نشأت عند وفود الهجرات العربية المسلمة إلى السُّـودان في قرون سبقت قيام مملكة الفونج الإسلامية، التي قامت في السُّـودان في بداية القرن العاشر الهجري سنة 910هـ. ولكنها كثرت وانتظمت بعد قيام مملكة الفونج، فقيام هذه المملكة ساعد كثيراً على دخول العلماء والقُرّاء إلى السُّـودان.
يقول الشيخ/ يوسف إبراهيم النّور عن ذلك: "وقد ازدهرت وفود العرب والعلماء منهم على الخصوص في القرن العاشر الهجري، وبرزت في المجتمع السُّـوداني شخصيات علمية، وأنشأت هذه الشخصيات مدارس القرآن الكريم بدنقلا، وبربر، والجزيرة، وكردفان"(1).
ويقول صاحب كتاب: "التربية في السُّـودان": "فلا غرو أنْ نجد أفراداً وأسرات مثقفة يهاجرون من هذه الأُمَّة الإسلامية إلى قطر حديث عهد بالإسلام هو السُّـودان ينزلون في كنف ملوكه رغبة في عطائهم وإكرامهم أو ليعيشوا في خيراته وأراضيه الوافرة أو لينشروا دين الله والعلم والتصوُّف في هذا القطر الجديد(2).
يتضح مما ذكرنا أنَّ مدارس القرآن الكريم نشأت في الجزيرة وغيرها في السُّـودان بعد توافد هذه الهجرات المسلمة إلى السُّـودان، وكان نشر القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية همّا لهؤلاء المهاجرين من العلماء والقُرَّاء الذين وفدوا إلى السُّـودان في ذلك الوقت، ومما شجَّع هؤلاء العلماء على الهجرة إلى السُّـودان المعاملة الحسنة التي كانوا يجدونها من ملوك الفونج وأمرائهم.
يقول الشيخ/ محمد ضيف الله: "اعلم أنَّ الفونج ملكت أرض النوبة وتغلبت عليها في أول القرن العاشر سنة عشر بعد التسعمائة وخطّت مدينة سنار خطّاها الملك عمارة دنقس، ولم يشتهر في تلك البلاد مدرسة علم ولا قرآن... حتى قدم الشيخ/ محمود العركي وعلَّم النّاس. وفي أول النصف الثاني من القرن العاشر ولي الملك عمارة أبو سكيكين الشيخ عجيب المانجلك، ففي أول ملكه قَدِمَ الشيخ/ إبراهيم البولاد من مصر إلى ديار الشايقية ودرَّس فيها "خليلاً" و"الرسالة"، وانتشر علم الفقه في الجزيرة، ثم قدم التلمساني المغربي على الشيخ/ محمد عيس سوار الذهب، وسلّكه طريق القوم وعلّمه علم الكلام وعلوم القرآن من تجويد، وروايات، ونحو، وانتشر علم التّوحيد والتّجويد في الجزيرة، لأنَّه أخذ عليه القرآن عبد الله الأغبش من بربر ونصر والد الفقيه أبو سنينة في أربجي، ثم قدم الشيخ/ محمد المصري دار بربر ودرَّس فيها علم التوحيد والنحو والرسالة، وانتشر علمه في الجزيرة، وجميع هؤلاء المشايخ المذكورين في دولة الشيخ عجيب ومدتها إحدى وأربعون سنة"(3).
يتضح مما ذكر أنَّ خلاوى القرآن الكريم انتشرت في الجزيرة بعد قيام مملكة الفونج الإسلامية خاصة في عهد الشيخ عجيب المانجلك، الذي حكم ـ كما ذكر المؤرخون ـ من عام 1570م وإلى عام 1611م، وقد شجَّع القُرَّاء والعلماء من خارج السُّـودان من الدول المجاورة وأغدق عليهم النّعم، فشهدت سنو حكمه هجرة كبار العلماء الذين حملوا علم التجويد والقراءات إلى السُّـودان، أمثال الشيخ/ التلمساني المغربي، الذي وفد على الشيخ محمد عيس سوار الذهب بدنقلا العجوز، وعلَّمه علوم القرآن من تجويد وقراءات. ووفد أيضاً
الشيخ/ محمد المصري الذي استقرَّ به المقام ببربر وقامت على أثر ذلك خلاوى الغبش بالقرب من بربر، أسّسها الشيخ/ عبد الله الأغبش، وقد أخذ القرآن وعلومه على الشيخ/ محمد عيس سوار الذهب، وانتشر علمه بالجزيرة، كما تتلمذ على الشيخ/ سوار الذهب أيضاً الشيخ/ نصر والد الفقيه أبو سنينة في "أربجي"، الذي أسّس خلوة للقرآن الكريم أمّها قوم كثيرون. قال ود ضيف الله عن ابنه أبي سنينة: "سكن مدينة "أربجي" ودرَّس بها النّاس، وبلغت حلقته ألف طالب، وقرأ عليه خلائق لا يحصون، وقد قرأ والده القرآن وأحكامه على الشيخ/ محمد عيس سوار الذهب بدنقلا"(4).
وفي عهد مملكة الفونج شهدت مدينة أربجي نهضة علمية وقرآنية كبيرة، ويذكر صاحب "الطبقات" ويترجم لعلماء عاشوا فيها وكان لهم دور كبير في نشر القرآن والعلم، منهم الشيخ القاضي دشين، الذي يقول عنه: ولي القضاء على أربجي وعامة الشافعية، ومنهم أيضاً شمّة بن محمد بن عدلان، حيث قال: إنَّه وُلِدَ بأربجي وصار مفتياً في مذهب مالك والشافعي ومدرساً فيهما، عالم أربجي وخطيبها وقاضيها، توفى ودُفِنَ بها(5).
ومن المراكز العلمية والقرآنية التي اشتهرت بالجزيرة في ذلك الوقت سنّار عاصمة مملكة الفونج، التي كان بها مدرسة قرآنية وعلمية، وبها مكتبة عامرة، وأشهر من درّس بها العلم والقرآن ـ كما ذكر صاحب كتاب: "الطبقات" ـ عمّار بن عبد الحفيظ الخطيب الذي وُلِدَ بها وسافر إلى الحجاز لطلب العلم وقرأ فيها جميع العلوم الفقهية، والنقلية، والعقلية، وعلم النّحو، والأصول، والمنطق(6).
كما اشتهر أيضاً مسيد ود عيسى الذي أسّسه الشيخ/ مضوي بن عبد الماجد الأنصاري الخزرجي وأحفاده، قال عنه صاحب "الطبقات": "وُلِدَ بكترانج(7)، تفقّه على القدال القرضي والشيخ/ شرف الدين ولد بري سلك، وأرشد ودرّس القرآن لناسٍ كثيرين"(8).
ومن القرى التي اشتهرت أيضاً بنشر القرآن والعلم في ذلك الوقت قرية البشاقرة غرب، التي أوقد فيها نار القرآن والعلم الشيخ محمد بن أرباب العقائد، قال عنه صاحب "الطبقات": "أوقد نار القرآن والعقائد، وتعلّمت عليه جماعة كثيرة، وكان من الذاكرين الله كثيراً، يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً، توفى سنة سبعين بعد المائة والألف، ودُفِنَ بالبشاقرة"(9).
كما شهدت قرى أخرى بمنطقة الجزيرة نهضة علمية وقرآنية كان لها أثر كبير في نشر القرآن والعلم، وشمل ذلك قرى في غرب الجزيرة منها مدينة المناقل التي أُسّست فيها خلوة لتعليم القرآن وحفظه، أسّسها الشيخ/ البُر الذي حفظ القرآن وتلقى العلوم بأبي حراز، حيث زامل الشيخ فرح ود تكتوك العالم السناري المشهور، وظلت خلاويه هذه تؤدي وظيفتها في نشر القرآن الكريم إلى يومنا هذا، وهي الآن من أكبر خلاوى القرآن الكريم في ولاية الجزيرة، وبها الآن أكثر من الثلاثمائة طالب، ويقوم بالإشراف عليها حفيده الشيخ/ أحمد بن الشيخ محمد المشهور بود البحر.
ومن القرى التي اشتهرت بتدريس القرآن من عهد دولة الفونج إلى يومنا هذا أيضاً قرية ود الماجدي(10)، وأبي حراز(11)، وود الفادني(12)، وغير ذلك كثير من خلاوى القرآن الكريم التي ظلت تؤدي رسالتها إلى اليوم، مثل خلوة
الشيخ/ القرشي بالحلاوين، التي حفظ بها المهدي القرآن. يقول الشيخ المرحوم/ يوسف إبراهيم النّور في وصفهم: "استمر تلامذة الشيخ/ عبد الله الأغبش في نشر القرآن وتفرَّقت أعدادهم الهائلة في أنحاء السُّـودان، وخاصة الجزيرة وكردفان، فلا تجد في هذه المنطقة من بربر وإلى كردفان ودارفور من يقرأ بغير قراءة أبي عمر بن العلاء برواية الدوري من طريق أبي الزعراء، وقد بلغ حفظهم للقرآن إلى درجة أنَّهم يعدون المتشابهات اللفظية في القرآن الكريم، ويحفظون دقائق الرسم والضبط على قواعد أئمة القرآن بالمشرق والمغرب، وكان سوق القرآن نافقة في عهدهم والإقبال على حفظه يتزايد، وكان هؤلاء الأئمة يحاطون بالجلال والهيبة والتقديس، ونفاد الكلمة، واتساع الجاه، وارتفاع المنزلة عند السلاطين وعند العامة والخاصة"(13).
ويذكر صاحب "الطبقات" مشايخ القرآن الذين تتلمذ عليهم قُرَّاء الجزيرة ويترجم لهم في ذلك الوقت، يقول عن أحدهم ـ هو الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الأغبش ـ الذي كان يسافر كثيراً إلى الجزيرة، حيث كان تاجراً ويعلّم أحكام القرآن في حِلِّه وترحاله: "عبد الرحمن بن حمد الأغبش حفظ الكتاب على أبيه حمد، وقرأ أحكام القرآن (الخرازي والجزري) على الشيخ عيسى ولد كنو، وشرح الخرازي شرحاً مفيداً، وشرح الجزرية، واعتكف الناس على كتبه ونظم الهداية وتحفة المدات لأحكام القرآن، وممن أخذ عليه من الأجلاء الفقيه عبد الرازق ود التويم، والفقيه عبد القادر الهلالي، والفقيه حمد ولد مدلول، ونحو ذلك كثير، ومدار علم التجويد في الجزيرة عليه وعلى تلامذته"(14).
وإلى الطريقة التي يسيرون عليها في تحفيظ القرآن لتلامذتهم وتعليمهم العلم، يترجم صاحب "الطبقات" لأحدهم، وهو الشيخ/ عبد الرحمن ولد أسيد، الذي حفظ القرآن بالجزيرة في خلاوى أربجي، وقرأ أحكام القرآن على الشيخ عبد الرحمن الأغبش شيخ مشايخ قُرَّاء الجزيرة، قال عنه: "أول ما يفرغ من صلاة الصبح يقرأ الماضي من خليل، ثم يدخل عليه ناس القرآن يصحّح ألواحهم، ثم يعود إلى "مختصر خليل"، ثم يأتيه طلبة التجويد لتلقي "الجزرية" و"الخرازي" و"مورد الظمآن"، و"عقيلة أتراب القصائد والرسم"، و"الشاطبية حرز الأماني في القراءات"، ثم يأتي أصحاب العقائد يقرأون "عقيدة الأخضري" في الظهر، فإذا صلَّى الظهر قرأ "مختصر خليل" حتى يصلي العصر، ثم يأتي أهل التجويد، ثم ناس "العقائد العشماوية" و"الأخضري"، فإذا صلَّى المغرب قرأ "متن خليل" من رأسه، ثم يعرض عليه أصحاب القرآن محفوظهم اليومي اثنين اثنين، ثم يقوم لصلاة العشاء ويصبر قليلاً حتى يتعشى الفقراء، ثم يشيل صوته ويجلس لناس القرآن، حتى يقرأوا سبع الدراسة، ثم يهدأ قليلاً من الليل ثم يوقظ الطلبة لما يُسمُّونه بالدغشية "قبل الفجر بساعتين"، يمحون ألواحهم، ثم يشرع في تصحيح ألواحهم حتى يجيئه المؤذن لصلاة الصبح"(15).
هكذا كانت طريقتهم في تحفيظ القرآن الكريم ومعرفة أحكامه من تجويد، ورسم، وضبط، وقراءات، ويلاحظ القارئ أنَّ هذه الكتب التي يدرسونها تشمل عدداً من علوم القرآن، فـ"الجزرية" في تجويد القرآن، و"مورد الظمآن" و"عقيلة أتراب القصائد" في رسم وضبط القرآن، و"حرز الأماني" في قراءات القرآن السبع، إضافة إلى كتب الفقه "مختصر خليل"، و"العشماوية"، و"كتب العقائد للأخضري".
وهكذا كانت خلاوى القرآن الكريم مَجْمَع العلوم الدينية فيتخرَّج الطالب منها حافظاً للقرآن الكريم، عالماً بأحكامه وعلومه من تجويد، ورسم، وضبط، وقراءات، كما نال حظاً وافراً من الأحكام الفقهية إضافة إلى علم العقائد.
ويعلَّق الشيخ/ يوسف إبراهيم النّور على هذه الطريقة في تحفيظ القرآن الكريم ومعرفة العلوم الدينية، يقول: "هذه كانت طريقتهم، وهكذا كان اجتهادهم ومثابرتهم وجدّهم في حفظ القرآن الكريم، ولقد استمرت هذه الطريقة الفريدة النادرة الوجود إلى عصر خاتمة القُرَّاء بالسُّـودان في أيام الحكم المصري بالسُّـودان الشريف محمد الأمين الهندي أحد زعماء السُّـودان، وقد كان للشريف محمد الأمين الهندي صيت عظيم، وتفوُّق تام، وحفظ جيّد للقرآن، ومعرفة لفنونه، فأرسى قواعد العلم، وبثّ فنون علم القرآن في تآليف جيدة محفوظة والحمد لله بأيدينا، ولقد أدركنا تلامذته وتلامذة تلامذته وأخذنا عنهم القرآن خاصة على شيخنا الجليل الشيخ/ حسب الرسول الشيخ العبيد ود بدر، فيا لك من تحقيق جم، وضبط جيّد، يتخرّج الطالب من مسجد أم ضواً بان مثلاً وهو يحفظ القرآن لا يخرم منه حرفاً، ولا يغيّر فيه ضبطاً، وعلى هذه الطريقة وعلى هذا المنوال كان نشر قراءة أبي عمرو بن العلاء البصري بالسُّـودان، حفظاً ودراسة متئدة ومتمهلة ومتقنة ومعرفة بأحكامه ومتشابهه ورسمه وضبطه".
يلاحظ مما قاله الشيخ/ يوسف إبراهيم أنَّ خلاوى القرآن الكريم استمرت في نشر رسالتها على أكمل وجه خلال فترة حكم دولة الفونج الإسلامية، وكذلك أيام حكم الأتراك للسُّـودان، الذي ظهر فيه الشريف محمد الأمين يوسف الهندي، إذ كان له دور كبير في نشر القرآن وعلومه في خلاويه في نوّارة والشريف يعقوب(16) وأمّها الطلاب من جميع أنحاء السُّـودان، وخاصة منطقة الجزيرة.
وإذا أردنا أنْ نعرف حال طلاب القرآن ومشايخه في تلك الفترة يمكننا أنْ نتعرَّف على سيرة الشريف الهندي إذ تمثّل سيرته صورة حيّة لطلاب العلم والقرآن، ومشايخ الجزيرة، وحال خلاوى القرآن في تلك الحقبة التي عاش فيها الشريف الهندي.
فقد وُلِدَ إبّان السنوات الأخيرة لدولة الفونج، وتربى في بيت علم ودين، وكان لوالده الشريف يوسف خلوة لتحفيظ القرآن الكريم، وقد أظهر نبوغاً وفطنة مما شجَّع والده على جلب أحد مشاهير القُرَّاء لتعليمه القرآن وأحكامه، من تجويد وقراءات مع أخوته، وهو الشيخ/ عبد الله الصليحابي من قبيلة البرقو، ولازم الهندي شيخه، وأظهر تفوُّقاً على إخوته مما جعل والده يسأل شيخه عن سرّ ذلك، فما كان من الشيخ إلاَّ أنْ أشار إلى تلميذه محمد الأمين ليجيب على والده فقال: عندما يأتي أولادك للقراءة أكون قد قرأت لوحي خمسين مرة(17).
وبعد أنْ تلقى القرآن على شيخه بدأ رحلة أخرى من حياته، وهي الفترة التي تنقّل فيها داخل السُّـودان، ورحل إلى كبار المشايخ ومشاهير العلماء، حيث ذهب ليقرأ في خلوة الشيخ/ أحمد ديبابي بالمفازة، ثم درس عند الفكي ود أسيد، ومنه ارتحل إلى جهة القضارف، حيث واصل دراسته على يد الشيخ/ محمد الأزرق الصوفي، ثم رحل إلى سنار ودرس قليلاً عند ود صبير، ثم ذهب للفكي أحمد ود كنان بـ "الكريبة"(18)، ثم رحل إلى مسيد ود عيسى، ثم كترانج ليدرس على الفكي المنصور(19).
وهكذا كان حال الهندي داخل السُّـودان ثم خرج منه لمصر والحجاز، حتى نال قسطاً وافراً من علوم القرآن، والقراءات، والرسم، والضبط، وفي مصر تتلمذ على الشيخ/ عليش، والشيخ/ حسن العدوي، والأمير الصغير، والباجوري الصغير، ثم رحل إلى صعيد مصر حيث أخذ القراءات على
الشيخ/ محمود أبو دريقة في مركز أسوان، ومكث معه زمناً استكمل على يديه أصول علم التجويد والقراءات(20).
وبعد أنْ رجع إلى السُّـودان أنشأ أول خلاويه لتعليم القرآن والتجويد بمنطقة السروراب، ثم أم طريفي ومرنات موطن أجداده، واستمرت الدراسة في منطقة السافل حوالي سبع وعشرين سنة(21)، تكاثرت عليه وفود الطلاب من كل جهات السُّـودان بما لا يسمح وحالة تلك المنطقة الاقتصادية، حيث ضاق بهم المكان، وصاروا يتعرّضون للأزمات التموينية، فخرج بطلابه بعد هذه الظروف التي أحاطت به إلى حِلّة الشريف يعقوب بجهة نهر الدندر(22)، حيث يقيم بعض أفراد أسرته، واستمرت الدراسة في حِلّة الشريف يعقوب قرابة الأربعة عشر عاماً(23)، وتكاثرت جموع الطلاب عليه وضاق بهم أيضاً المكان، حيث بلغوا ألوفاً، فعزم هذه المرة إلى نقل خلاويه إلى مكان بعيد عن سكن الناس، فنقل الخلوة إلى قرية تُسمَّى "نوّارة"، وفي نوّارة اكتمل عقد الخلوة وتهيأ لها كل أسباب الاستقرار، وهنا قسَّم الخلوة إلى أقسام، قسم يخص طلبة القرآن يبلغ شيوخه خمسين شيخاً، يأخذ عنهم القرآن خمسة آلاف طالب، وقسم يخص التجويد والقراءات، وبه ثلاثة عشر شيخاً مع كل شيخ خمسين طالباً(24).
وعن حال الخلوة في نوّارة حدثني الشيخ/ المكاوي الفكي الفضل بقرية ود نعمان عن أبيه الذي قرأ التجويد والقراءات على الشريف الهندي بنوّارة أنَّ عدد المتخرجين من الحفظة من خلاوى الشريف بنوّارة كل يوم أربعاء عشرة من الحفظة، وهذا على مدار العام وطيلة المدة التي قضاها معهم في الخلوة.
وقد استمرت الدراسة في نوّارة سبعة أعوام تخرّج فيها الآلاف، ويصدق ذلك قول ابنه الشريف يوسف الهندي في قصيدة يصف فيها حال الخلوة بنوّارة عند نشأته بها، يقول:
أَحِنُّ شوقاً إلى نُوّارةوبها نشأت من الصغارةمبارك الأهل والعمارةفأتوا من الأهل بالفرارةينالوا به الجواراويجتنوا عنده الثماراولليالي فهم سهّاراعلى هداهم إلى البدارة ويعطي من البشائر والنذارا(25)فإني والكريم يعلملأنَّها مرتعي وأنسيوقد رأيتُ بها مسيداًينيف عن عدة ألوفولا لهم مخلِّط بشيء سوىويحفظوا قول من براهميداوموا بالنهار صوماًوقطبهم بينهم حريصيحيط علماً بهم
وبالإضافة لتحفيظه للقرآن وتعليمه للتجويد والقراءات، كانت هنالك نخبة من تلاميذه يهتمون بكتابة المصاحف، خاصة برواية الدوري، أمثال
الشيخ/ آدم الحلاوي، والشيخ/ ضرار بن الحاج، وقد وقفت على مصحفين كُتِبا في خلوته بنوّارة على رواية الدوري عن أبي عمرو البصري، أحدهما مصحفه الخاص الذي كتبه تلميذه ضرار بن الحاج علي، ومصحف آخر كتبه أربعة من تلاميذه، على رأسهم تلميذه الفكي آدم الحلاوي لابنه الشريف يوسف، وهو موجود الآن بمكتبة الشريف يوسف ببري.
ولم تخب النار التي كانت متقدة قرابة نصف قرن من الزمان إلاَّ بعد أنْ تحرَّك الشريف محمد الأمين في سنة 1299هـ، حيث لحق بالمهدي في الغرب(26) بعد أنْ كتب إليه المهدي يدعوه للحوق به، وكان المهدي قد زاره بنوّارة قبل إعلان دعوته.
وهكذا ترك الشريف الهندي نوّارة ملبياً نداء الجهاد، مخلِّفاً بها أعظم الآثار العلمية التي تشهد بعلمه وإمامته التي لا زالت باقية إلى يومنا هذا بالمكتبات الخاصة التي تحوي العديد من مؤلفاته الخطيّة، بالإضافة إلى آلاف التلاميذ الذين حملوا عنه القرآن وقاموا بنشره في الكثير من بقاع السُّـودان، وأصبح قرآنه مضرب المثل في الخلاوى إلى وقتنا هذا.
وقد أنشأ كثير من تلاميذ الشريف خلاوى في أنحاء السُّـودان خاصة في منطقة الجزيرة، مثل خلوة ود نعمان بجنوب الجزيرة، التي أنشأها تلميذه الفكي الفضل، وخلوة طيبة الشيخ عبد الباقي بوسط الجزيرة، التي أنشأها تلميذه الشيخ حمد النيل، وخلوة فداسي، التي أنشأها تلميذه الفكي العباس، كما واصل ابنه الشريف يوسف تعمير الخلاوى مواصلة لرسالة والده، حيث أنشأ ثلاث عشرة خلوة للقرآن الكريم في منطقة جنوب شرق الجزيرة، واستمر في أداء رسالته إلى أنْ استدعته الحكومة الإنجليزية وأجبرته على الإقامة ببري الشريف موطن الأسرة الآن. كما أنَّ تلميذه الفقيه آدم الحلاوي قد واصل رسالته في تعليم القرآن بقرية "دلقا"(27)، وكتابة المصاحف التي اشتهرت بجمال الخطّ، ودقّة الضبط، وغير ذلك الكثير من خلاوى الجزيرة التي كان تلاميذه شيوخاً بها يعلِّمون القرآن الكريم ويقومون بنشر علومه من قراءات، وتجويد، وضبط، ورسم، أمثال الشيخ/ الناجي محمد إبراهيم المشهور بالفكي الجاك(28)، الذي لازم تدريس القرآن مع دروس الفقه والتوحيد واللُّغة العربية في خلوة الشيخ/ عبد الباقي من سنة 1340هـ إلى أنْ توفاه الله تعالى في العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري على عمر ناهز التسعين عاماً(29).
هكذا كان حال خلاوى القرآن الكريم منذ نشأتها وخلال حكم مملكة الفونج والأتراك بالسُّـودان، فعن طريق خلاوى القرآن الكريم انتشر الإسلام وعلومه، كما أنَّها كانت تمثِّل الدولة في المنطقة، ففيها يتلقى الطالب العلم، وفيها تُحلُّ المشاكل الاجتماعية، بمعنى أنَّ الحياة في المنطقة التي حول الخلوة تدار من الخلوة، وذلك لأنَّ شيخ الخلوة كان محل إجلال وإكبار عامة الناس وخاصتهم، وله مكانة رفيعة عند الملوك والحُكَّام.
وقد نالت الخلوة هذا الاحترام لارتباطها بالقرآن الكريم وتعليمه، ويرون فيها كل الخير. وينعكس هذا الاحترام على تعامل الأسرة مع بنيها الذين يحفظون القرآن الكريم، وذلك من حبهم لكتاب الله تعالى وإعزازهم له، ولذلك كان هدف الكثير من المسلمين أنْ يكون شيخاً لتدريس القرآن الكريم، لِمَا كان له من مكانة سامية، فهو رجل رسالة دينية مهمة في حياة الناس، كما يشارك المجتمع في كل حوادثه فرحاً وكرهاً، يؤم الناس في الصلاة، ويغسل الجنائز، ويصلي بها، ويفتي في أمور الشرع كلها، ويوزع المواريث، كما يصلح ذات البيْن، ويقوم بعقد قران الزواج، ويقضي بين الناس في النزاعات، ولذلك كان كل الذين نالوا حظاً من التعليم في تلك الفترة من حفظة كتاب الله، فلا يوجد عالم إلاَّ وهو يحفظ القرآن الكريم، لأنَّ الخلوة كانت عندهم محلّ القرآن والعلم، ولا يوجد غيرها يقوم بهذه الرسالة.
وقد اتصف شيخ القرآن بالجدّ والاجتهاد في طلب العلم، وذلك حسب الحياة العامة في الخلوة التي تعلّم بها، وقد كانت الرحلة لطلب العلم، وتحمُّل مشاق السفر ديدن الكثيرين منهم، كذلك الصبر على شظف العيش، وقلّة المؤونة، والاعتماد على النفس.
ويمكننا أنْ نقول: إنَّ الخلوة في الماضي كانت تقوم ببناء المجتمع الطاهر المعافى من الرذائل، المتمسك بكتاب الله تعالى قولاً وعملاً، كما تقوم بإعداد المجتمع وسادته.
كما أنَّ نظام التعليم في الخلوة يعطي الفرصة لكل طالب أنْ يسير حسب ذكائه واجتهاده، وفي هذا إنصاف للدارس كما فيه فائدة اقتصادية وتنموية كبيرة للمجتمع، كما أنَّ طريقة التعليم في الخلوة التي تعتمد على أنْ يُدَرِّس المتقدم في التعليم المتأخِّر تكسب الطالب الثّقة في نفسه، وتعدّه للقيادة وكيفية التعامل مع الآخرين.
وتُعَدُّ الخلوة مدرسة المجتمع كله، وذلك لعدم تقيدها بعمر أو عدد معين من الطلاب، ونظام الطلبة المساعدين في التدريس يسهِّل هذه الإدارة، وخلو الخلوة من الالتزامات المصرفية يسهِّل للطالب الالتحاق بها.
تعلِّم الخلوة الطالب الاعتماد على الذات، ويظهر ذلك جلياً في قيام الطلاب في جلب الوقود للأكل وللإضاءة "الفزعة"، كما أنَّ الطلاب في الخلوة يقومون بإعداد الطعام بأنفسهم.
واليوم الدراسي في الخلوة يبدأ قبل الفجر وينتهي بعد صلاة العشاء بفترة، مع وجود فترات للراحة، وفي ذلك استغلال تام للوقت وتوظيف له.
الخلوة تمثِّل نقطة مهمة في التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، وذلك لِمَا يقوم به الطلبة المتقدمون بالمساعدة لإخوانهم المبتدئين، كما أنَّ إعاشة الطلاب في الخلوة تعتمد اعتماداً كبيراً على مساهمة المجتمع وجهد الخيرين.
التربية في الخلوة تتميّز بالطاعة التامة للشيخ والهدوء والوقار والسكينة، وذلك نابع من علاقة الطالب بالقرآن الكريم.
من مميزات الخلوة أنَّها تستعمل المواد المحلية في التعليم، فاللوح والبوص والمداد كلها ليست فيها تكلفة مالية، كما نجد الخلوة تُبنى من المواد المحلية، فيمكن أنْ تقوم براكوبة من القش، وبمستوى المباني المحلية أيّاً كان نوعها. فإقامة الخلوة من السهولة بمكان، فكل إنسان يمكن أنْ يفتح خلوة في بيته أو في المسجد، فهي عبادة وطاعة لله، ولذلك كثرت خلاوى القرآن الكريم في ذلك الوقت، وقلَّ أنْ تجد قرية لا توجد بها خلوة لتعليم القرآن الكريم.
وهكذا استمرت خلاوى القرآن الكريم في نشر رسالتها من تعليم القرآن الكريم ومعرفة أحكام الشريعة الإسلامية، من فقه وتوحيد، إضافة إلى علوم اللُّغة العربية.
واختصت فرقة من شيوخها في تأليف المنظومات وشروح بعض الكتب التي تعين الدارس على معرفة علوم القرآن ومعرفة أحكام الشريعة الإسلامية، أمثال الشيخ/ عبد العاطي راجل العطشان، والشيخ/ عبد الرحمن الأغبش، والشيخ/ حمد ود مدلول، والدنفاسي، والشريف الهندي، وغير هؤلاء ممن كان لهم دور بارز في تلك النهضة القرآنية التي شملت السُّـودان إبّان حكم الفونج والأتراك.
خلاوى القرآن بولاية الجزيرة في الحاضر:
بدخول المستعمر إلى السُّـودان بدأ أول نقطة انطلاقته الاجتماعية بالحرب ضد الخلوة، التي كانت تمثِّل النور القرآني والشعاع الإسلامي في المجتمع، وليقينه بأنَّ القائمين على أمر الخلاوى آنذاك لن يتركوا تدريس القرآن الكريم إذا طُلِبَ منهم ذلك، لم يطلب منهم ترك تدريس القرآن الكريم، بل قام بإنشاء المدارس جنباً إلى جنب مع الخلاوى، مع العناية التامّة بتلميذ المدرسة، من نظافة، وإعاشة، وبيئة صالحة للدارسة، ومنهج يخدم أهداف المستعمر في بعض جوانبه، مع الاعتناء بخريج المدرسة، وأوكل إليه إدارة تصريف الشؤون العامة في الدولة بغض النظر عن أخلاقه وسلوكه. مع إهمال الخلاوى وتهميش دور حفظة القرآن الكريم، لذا تدهورت الخلاوى عامة، خاصة في الجزيرة، التي استوطن فيها المستعمر في إدارة مشروع الجزيرة، واندثرت كثير من خلاوى القرآن الكريم التي كانت عامرة طيلة القرون السابقة، كما قلَّ عدد الطلبة في الخلاوى، وتغيّرت نوعيتهم، فكل الأسر التي يعتقد أنَّها قادرة ورائدة في المجتمع أحجمت عن إرسال أبنائها إلى الخلوة، وأرسلتهم إلى المدارس، حتى لا يفقدوا قياداتهم الاجتماعية، حتى إنَّ كثيراً من القائمين على أمر الخلاوى يرسلون أبناءهم إلى المدارس في حين أنَّهم يدّرسون القرآن في خلاويهم لغيرهم، فخلت الخلاوى في كثير من المناطق من الدارسين من أبناء القرية ومن القرى التي حولها، سوى قلة من الخلاوى حظيت بتدريس أبنائها وأبناء منطقتها بجانب الوافدين، وقد كان لهذه القلة التي درست بالخلاوى دور فاعل في قيادة الحياة الدينية وتعليم الناس أمور دينهم، مع ما لازم حياتهم من شظف العيش، وتهميش دورهم في قيادة الحياة العامة في دواوين الدولة.
لذلك لم تواكب الحياة في الخلوة الحياة العامة، فتدهورت بيئتها، وحورب طلابها، واتصفت بشظف العيش ومعاناة الشيخ والطالب، حتى إنَّ الآباء يهدّدون أبناءهم بإرسالهم إلى الخلوة إنْ لم ينجحوا في المدرسة، وهذا قد زاد الأمر تعقيداً في التربية، حيث صارت الخلوة مخيفة للطفل، وبالتالي قلّت صلته بالقرآن الكريم وعلوم الشريعة الإسلامية.
وتنزّل أمر محاربة الخلوة إلى ما قبل المدرسة، حيث كان كثير من الطلاب يدخلون الخلوة، وينالون بها قدراً من معرفة القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى المدرسة، وهذا قد حفظ الرباط بين الطفل وبين القرآن الكريم، الشيء الذي لم يرض المستعمر، فقام بإنشاء رياض الأطفال، ولما كان قصد المستعمر من قيام هذه الرياض قطع الصلة بين الطفل والقرآن الكريم؛ فقد خلا منهجها من القرآن الكريم عند إنشائها، وقد اهتمت بحفظ الطفل نظيفاً غير متسخ الملابس والبشرة كما في الخلوة.
لكل هذا فقد نشأ جيل جاهل بمعرفة القرآن الكريم عموماً، وتلاوته على وجه الخصوص، فصار معلّم التربية الإسلامية في المدرسة لا يعرف القراءة الصحيحة من المصحف، وامتدّ الجهل بالقرآن الكريم حتى شمل بعض الدعاة وخطباء المساجد، حتى أنَّ حافظ القرآن الكريم لا يرغب سماع الخطب في كثير من الأحيان لئلا يؤذي مسامعه وجوارحه باللحن في الآيات القرآنية، الذي صار ظاهرة عامة بين معلمي المدارس وأئمة المساجد.
ونتيجة لهذا كله أصبح الذين يدرسون بالخلوة ليس لهم مجال في التعليم إلاَّ المعاهد الدينية لمن يكون موفقاً منهم، فهذا قد أفرز تركيبة انهزامية لدى الدارس والمدرس بالخلوة، مع وجود بعض الحالات النادرة التي وُفّقت في حفظ القرآن الكريم ودراسة العلوم العصرية حتى الجامعة في كل المجالات.
ومع هذه الهجمة الشرسة التي قادها الاستعمار ومعاونوه في محاربة الخلوة وشيوخها وطلابها، فقد اصطفى الله سبحانه وتعالى نخبة من المسلمين في السُّـودان برعاية الخلاوى، والاهتمام بها، فأمَّها نفر طيب من الأخيار، كانوا قادة التعليم الديني في المعاهد الدينية والمدارس الحكومية، وأئمة في المجتمع، تنفر إليها جموع المسلمين لحلّ المشاكل الاجتماعية وتبصيرهم بأمور الدين عامة. كما أنَّ هذه الحرب ضد الخلوة أثارت نفسية سلبية ضد المؤسسات التعليمية التي أنشأها المستعمر عند عدد مقدّر من المواطنين حمية لدينهم، فكان التمسُّك بالمؤسسة التعليمية السُّـودانية الأصيلة التي هي الخلوة.
كما أنَّ عدم ارتباط ما تقدّمه مدرسة المستعمر هذه بالبيئة السُّـودانية وثقافتها وأخلاقها من منهج يحارب قواعد الدين في بعض جوانبه، مثل المواضيع التي تتحدّث في كتب المطالعة عن: (محمود الكذاب)، و(مريم الشجاعة)، و(طه القرشي مريض)، وغير ذلك من تشويه لتاريخ السُّـودان أو الحديث عن الربح البسيط والربح المركب في كتب الرياضيات، أدّى إلى عزوف بعض الناس وتعاملهم معها بحذر طيلة فترة الاستعمار وتمسُّكهم بالخلوة، بحسبانها المعبّر الحقيقي عن هوية الإنسان المسلم وثقافته.
ومع هذا الصمود الذي واجهت به خلاوى القرآن الكريم هذه الهجمة الشرسة من قبل المستعمر؛ فقد أثّرت هذه الهجمة سلباً على أداء الخلاوى بصفة عامة، ولم يكن الأداء فيها كما سبق قبل الاستعمار، حيث أصبح عمل الخلوة ينحصر في تحفيظ القرآن الكريم فقط، فالحفظ يتمّ دون علم حتى بالمفردات، وغابت تماماً الثقافة الدينية من فقه وعقائد، التي كانت تلازم تحفيظ القرآن في عامّة الخلاوى، فالطلبة يجهلون الكثير من فقه العبادات والمعاملات، ومعرفة العقيدة الصحيحة للمسلم. كما لا توجد ثقافة علمية حديثة للطالب تواكب ما يدور حوله في المجتمع من نهضة شملت أوجه الحياة المختلفة. فأصبحت ثقافة حُفَّاظ القرآن محدودة جداً، إلاَّ قلّة نادرة منهم.
أضف إلى ذلك أنَّ هذه الهجمة على الخلوة جعلتها مكاناً لتدريس الطبقة الفقيرة، كما أنَّ الحالة الصحية سيئة غالباً في كثير من الخلاوى، إذ لا توجد مراحيض، وأغلب الطلاب يفترشون الأرض، بالإضافة إلى اكتظاظ العنابر بالطلاب، كما أنَّ أكثر الطلاب وفدوا من مناطق خارج الجزيرة، إمَّا من غرب السُّـودان أو من شرقه، وقد تركهم آباؤهم أمانة عند الشيخ، فهو مسئول تماماً عن الإعاشة والعلاج والكسوة وحتى ختان الطلاب، مما جعل مهمة الخلوة صعبة وعسيرة.
هذه هي حال خلاوى القرآن الكريم عند خروج المستعمر، وظَّل أمرها كذلك ولم يطرأ تغيير على أدائها، كما أنَّها لم تحظ بالعناية من قبل الحكومات الوطنية التي تعاقبت بعد خروج المستعمر.
وقد شهدت خلاوى القرآن الكريم في العقود الأخيرة من القرن العشرين تطوراً ملحوظاً، إذ أمّها كثير من طلبة المدارس الثانوية والجامعات ليحفظوا كتاب الله تعالى، وكان لهذا أثر كبير في تهيئة مناخ الخلوة، كما أنَّ وجود هؤلاء الطلاب الجدد ساعد كثيراً على تطوير الخلاوى والنهوض بها، خاصة بعد أنْ تخرّجوا من الجامعات وأصبحوا قادة في المجتمع ودواوين الدولة، وأصبح منهم: المهندس، والطبيب، والمعلم.
وقد شهدت خلاوى القرآن الكريم تطوراً ملحوظاً في أيام الحكم المايوي بعد الضربة العسكرية القوية التي وجهها النظام المايوي للشيوعيين، ووجد طلاب الخلاوى اهتماماً. وتلاحظ ذلك في قيام المهرجانات السنوية احتفالاً واهتماماً بحافظ القرآن الكريم، وعمل المنافسات والمكافآت للحفظة في جميع أنحاء السُّـودان، إضافة إلى وجود حفل ختامي يحضره رئيس الجمهورية ويعلن فيه الفائزين في هذه المناسبات وتوزع عليهم الجوائز.
وبقيام كيلة القرآن الكريم بأم درمان في مطلع الثمانينات اكتملت مراحل تعليم القرآن الكريم، التي تبدأ بالخلوة ومعاهد التجويد، ثم معهد شروني، فكلية القرآن الكريم، التي التحق بها كثير من الحُفَّاظ وطلبة المدارس.
وبعد قيام ثورة الإنقاذ الوطني شهدت خلاوى القرآن الكريم تطوراً ملحوظاً إذ شملت عناية الدولة الاهتمام بحافظ القرآن الكريم، وأعطته فرصاً للتعيين معلماً بالمدارس، أسوة بخريج الجامعة، كما قامت جامعة القرآن الكريم، التي اهتمت بتأهيل الحفظة، وإعدادهم للقيام بمهمة التدريس ودخول الجامعات.
كما قدّم ديوان الزكاة الاتحادي والولائي بولاية الجزيرة دعماً مقدّراً شمل توفير الذرة لكل الخلاوى الإعاشية إضافة إلى بعض المساعدات المالية التي تقدّم لكثير من الخلاوى وتساعد في إصلاح المباني وتهيئة بيئة الخلاوى، وقامت الزكاة أيضاً بتمليك عدد من الخلاوى وسائل إنتاج من مزارع وطواحين وآلات حاصدة ساعدت في تعمير كثير من الخلاوى.
وبحلول عام 1996م صدر قرار من وزارة التخطيط الاجتماعي بقيام مجلس لرعاية خلاوى ولاية الجزيرة، كان من أهداف قيام هذا المجلس العمل على تطوير الخلاوى إلى مدارس قرآنية تعمل على تحفيظ القرآن الكريم وسط مواطني ولاية الجزيرة ورعاية طلاب الخلاوى من الناحية الصحية والإعاشية وإدخال علوم أخرى في الخلاوى تصاحب حفظ القرآن الكريم.
قام المجلس بعمل مسح شامل لكل خلاوى الولاية التي بلغت نحو أربعمائة وخمسين خلوة مصنّفة إلى ثلاثة أنواع:
أولاً: خلاوى موسمية مرتبطة بالعطلات الصيفية للمدارس.
ثانياً: خلاوى مستمرة وغير إعاشية.
ثالثاً: خلاوى إعاشية وعددها مائة وثلاث وعشرون خلوة ومعظم طلاب هذا النوع من مختلف الولايات والدول المجاورة ويبلغ عدد طلابها حوالي ثمانية آلاف وسبعمائة طالب.
بالنسبة للنوع الأول وهي الخلاوى الموسمية عمل المجلس بالتنسيق مع المحافظين ورؤساء اللجان الشعبية على عمل راتب شهري لشيخ الخلوة يدفع مناصفة بين المحافظة واللجنة الشعبية في القرية، وقد طبّق ذلك في عدد من المحافظات، محافظة الكاملين والبطانة والحصاحيصا.
وشملت هذه الرواتب النوع الثاني من الخلاوى وهي الخلاوى المستمرة وغير الإعاشية.
وقد تطور هذا النوع من الخلاوى في سنة 1998م إلى مدارس قرآنية كان ذلك بناء على توجيه رئيس الجمهورية بالاهتمام بالمدارس القرآنية وتبنى والي الولاية الحالي هذا المشروع، ونشأت نتيجة لذلك ثلاث وتسعون مدرسة قرآنية انتظمت فيها دراسة القرآن الكريم، بالإضافة إلى منهج الأساس ووصلت حتى الآن إلى نتائج طيبة. عدد الطلاب الدارسين في هذه المدارس وصل إلى أحد عشر ألف طالب وثمانية عشر طالبة، والجدول أدناه يبيِّن عدد المدارس القرآنية إضافة إلى عدد شيوخ القرآن الكريم بهذه المدارس وموقف حفظ التلاميذ لكل محافظة وذلك حتى شهر أغسطس 2001م.
خلاوى القرآن غير الإعاشية
تحوّل بعضها إلى مدارس قرآنية
عدد المدارس:
المجموع عدد المدارس المحافظة
مختلط بنات بنين
34 4 4 26 الجزيرة
15 1 1 13 المناقل
18 2 2 14 الحصاحيصا
9 ـ 3 6 الكاملين
8 1 ـ 7 البطانة
9 5 ـ 4 أم القرى
93 13 10 70 المجموع
عدد التلاميذ:
المجموع عدد التلاميذ المحافظة
بنات بنين
3656 780 2876 الجزيرة
1940 230 1710 المناقل
2210 480 1730 الحصاحيصا
1360 480 880 الكاملين
1072 80 992 البطانة
780 140 640 أم القرى
11018 2190 8828 المجموع
عدد الشيوخ وموقف الحفظ:
موقف الحفظ عدد الشيوخ المحافظة
أدنى وسط أعلى
سورة التحريم سورة الصف سورة لقمان 85 الجزيرة
سورة التغابن سورة الواقعة سورة القمر 26 المناقل
سورة الزخرف سورة ص سورة الحج 31 الحصاحيصا
سورة المزمل سورة الطلاق سورة الأحقاف 14 الكاملين
سورة المجادلة سورة الكهف سورة الأعراف 15 البطانة
سورة النبأ سورة المدثر سورة الملك 13 أم القرى
184 المجموع
هذه المدارس تنقسم إلى أربع مجموعات:
المدارس ذات الأربع فصول، عددها (57).
المدارس ذات الثلاث فصول، عددها (14).
المدارس ذات الفصلين، عددها (4).
المدارس ذات الفصل الواحد، عددها (18).
يلاحظ أنَّ هنالك تفاوتاً في حفظ القرآن الكريم بين هذه المدارس، ويرجع ذلك إلى اهتمام إدارة المدرسة ومتابعة عمل الشيخ، وتوفير الألواح واستعمالها بصورة جيدة، إضافة إلى حضور التلاميذ إلى الخلوة في المساء.
ولقيام هذه المدارس القرآنية بالمحافظات نشأت إدارة لها بوزارة التربية، تقوم بالإشراف والمتابعة، وتتبع هذه الإدارة لمرحلة الأساس، تتكون من معلمين هم أصلاً من الحفظة العاملين في وزارة التربية.
ومن هذا النوع خلوة ود الفضل بالبطانة، التي بلغ عدد الحفظة الذين تخرّجوا منها أكثر من مائة وعشرين حافظاً.
أمَّا النوع الثالث من خلاوى القرآن الكريم هي الخلاوى الإعاشية، فقد كانت محل عناية مجلس الخلاوى بالولاية، وبعد الزيارات الميدانية لكل هذه الخلاوى وقف المجلس على تردي الأوضاع في هذه الخلاوى، خاصة الإعاشة والمباني المتصدعة وصحة البيئة، وقد لمس المجلس من هذه الزيارات أوضاعاً لا تليق بحافظ كتاب الله، كما أنَّ كثيراً من الخلاوى العريقة توقفت وتصدّعت مبانيها كخلوة الشيخ القرشي، التي درس فيها الإمام محمد أحمد المهدي القرآن الكريم.
كما وقف المجلس على جوانب مشرقة في بعض الخلاوى التي قام بزيارتها، ووجد العمل في تحفيظ القرآن الكريم متقدّماً في بعض الخلاوى كخلوة "كريعات" بمحافظة البطانة، التي تستعمل جهاز الحاسوب في رصد المعلومات وطباعة المؤلَّفات التي يقوم بتأليفها شيخ الخلوة ومؤسسها إضافة لاستعمالهم للطاقة الشمسية في الإضاءة ليلاً كما أنَّ خلوتهم مزودة بمكتبة عامرة بها أمهات المراجع من الكتب الإسلامية والعربية، ويقوم بذلك كلّه إدارة راشدة تقوم بالإشراف على عمل الخلوة التي تقسّمه إلى عدة وحدات كوحدة الزراعة والمخازن والاستثمار وإدارة الدراسة من قرآن وعلم.
شهد المجلس في بعض الخلاوى نظاماً متقناً في إدارة الخلوة وإسكان طلابها في عنابر منتظمة وقرآنية مؤسسة مفروشة وبيئة صحية طيبة، كما أوقف صاحب الخلوة ومؤسسها بقالة، وطاحونة، وبئراً جوفية لضخ المياه، ووحدة صحية، ومعهداً للقرآن الكريم، كل ذلك على نفقته ومن حر ماله، كما هو مشاهد الآن في خلاوى "ود بسري" في محافظة الكاملين، وفي خلاوى الفكي حمد في أبي عشر.
وفي خلاوى السديرة الشرقية وقف المجلس على خلاوى الشيخ جار النبي التي تنتظم فيها حلقات العلم جنباً إلى جنب مع حلقات القرآن الكريم ودروس التجويد واللُّغة العربية.
كذلك خلاوى ود الفادني بمحافظة الحصاحيصا التي تنتظم فيها دراسة النساء في دار المؤمنات جنباً إلى جنب مع الرجال، ووقوف خليفة الخلوة بنفسه على النفقة والزراعة بتجرُّد تام ونكران ذات في خدمة كتاب الله العزيز.
كذلك خلاوى ود البحر بالمناقل التي أضاءت تلك المنطقة بنور القرآن أكثر من ثلاثة قرون، ولا زالت تقوم بذلك على أتمّ وجه مع النفقة وحلّ ضائقة كثير من الضعفاء والمحتاجين.
وغير ذلك من خلاوى القرآن الكريم مثل خلوة الكريمت بالمناقل، والنخيرة بالحصاحيصا، وود الأحيمر بود راوة، وخلوة الشيخ/ عبد الرحمن بالكاملين وود الماجدي، التي يقوم فيها شيوخ هذه الخلاوى بالنفقة مع التعفُّف وتقديم خدمات متميزة لقُرَّاء القرآن الكريم.
وفي تطور لخلاوى القرآن الكريم مشهود نجد المدرسة القرآنية بالشيخ طه البطحاني، حيث نجد اختصار سني الدراسة في المدرسة القرآنية إلى ست سنوات مع حفظ القرآن حفظاً ممتازاً، وقبول كل طلاب المدرسة بالمدارس الثانوية، مع استعمال أحدث الأجهزة كالحاسوب وغيره في منهج الدراسة، ويشمل ذلك الرجال والنساء مع السعي الجاد لإدارة المدرسة بالاعتماد على الذات في إيجاد موارد للدخل من حافلات، وتراكترات، ومزارع.
عمل المجلس بالتعاون مع ديوان الزكاة الولائي على توفير الذرة بصورة منتظمة طوال العام، وقد قام ديوان الزكاة في هذا الصدد بتوفير حوالي ثمانية آلاف جوال ذرة تصرف سنوياً للخلاوى منذ عام 1996م وإلى عام 2001، توزع بنسب عدد طلاب كل خلوة ويتمّ استلام هذه الكمية من رئاسة المحافظات بإشراف مسئول المجلس وأمين الزكاة في كل محافظة من محافظات ولاية الجزيرة الست.
وكان من خطّة المجلس قيام مؤتمر جامع لتكريم مؤسسي الخلاوى تقدّم فيه أوراق تحمل في طياتها أهدافاً تربوية وتوعية عامة، لافتين أنظار القائمين بأمر الخلاوى إلى ضرورة توخي الصدق وتحمُّل أمانة كتاب الله والتعفُّف وألا تتخذ الخلاوى سبل كسب دنيوي، بل احتساباً للدار الآخرة، ولم يتمكن المجلس من قيام هذا المؤتمر فلجأ إلى قيام مؤتمرات بالمحافظات الست يجتمع فيها شيوخ خلاوى كل محافظة على حدة، وقد قامت هذه المؤتمرات بالمحافظات في شهر مايو عام 2001م.
وبفضل الله تعالى وتوفيقه حقّقت هذه المؤتمرات أهدافها بدرجة كبيرة، وتم من خلالها التعارف والتفاكُّر وتبادل الآراء، وتتلخص أهدافها في:
التعرُّف على مؤسسي الخلاوى لخلق روابط تعين على التعارف مستقبلاً.
التفاكُّر حول كيفية تطوير الخلوة معنى ومضموناً، وتنوّع مناشطها وشمول منهجها.
طرح أهداف المدرسة القرآنية ومشاركة أهل الخلاوى نحو دفعها إيجابياً لتحقيقها تدريساً ومتابعة.
التعرُّف على العقبات التي تواجه الخلاوى وتذليلها (الإعاشة، السلوكيات، الصحة العامة).
كما أنَّها خرجت ببعض التوصيات نوجزها فيما يأتي:
عمل سجل للطلاب يشمل المعلومات الأساسية عن الطالب.
تصميم بطاقة طالب لكل طلاب الخلاوى تجدّد سنوياً.
إدخال طلاب ومشايخ الخلاوى تحت مظلة التأمين الصحي.
تقديم دراسات جدوى لمشاريع إعاشية للخلاوى بغرض الاعتماد على الذات بعد الله تعالى.
إدخال المواد الشرعية وعلوم القرآن لطلاب الخلاوى.
وضع الضوابط اللازمة لانتقال الطلاب من خلوة إلى خلوة.
إقامة مدارس قرآنية في كل قرية بها خلوة إعاشية.
المحافظة على رواية الدوري بحسبانها الرواية التي يختص بها عامة أهل السُّـودان.
الاهتمام بمهرجانات القرآن الكريم وجعلها موسماً لتحديد المستويات، وإبراز المناشط، وتكريم الحفظة والمتفوقين والمؤسسين للخلاوى.
وقد قام المجلس بتنفيذ بعض هذه التوصيات منها عمل السجل الدائم لطلاب كل خلوة، وعمل البطاقة الشخصية للطلاب، إضافة إلى قيام بعض المهرجانات لتكريم الحفظة ومؤسسي الخلاوى، كما قام ديوان الزكاة بالولاية بتنفيذ عدد من المشاريع الإعاشية لدعم الخلاوى، كما التزم شيوخ الخلاوى بالمحافظة على رواية الدوري بحسبانها الرواية التي ينفرد بها أهل السُّـودان، ووجهت حكومة الولاية بدفع العمل في الخلاوى بتنفيذ ما يلي:
دفع العمل بالخلاوى بحسبانه عملاً يشارك فيه المجتمع بإشراف الشيخ.
تخصيص ميزانية معتمدة من وزارة المالية لمجلس الخلاوى.
وضع خطة للاستفادة من الخلاوى الموجودة حالياً بإنشاء المدارس القرآنية، مع الإشراف الفني من جانب وزارة التربية ومتابعة مجلس الخلاوى.
قيام مدرسة قرآنية في كل قرية بها خلوة إعاشية.
عمل تأمين صحي لكل الخلاوى الإعاشية بالولاية.
إحصائية الخلاوى الإعاشية وعدد طلابها بالمحافظات
عدد الطلاب عدد الخلاوى المحافظة
1704 18 الجزيرة
821 15 المناقل
3133 29 الحصاحيصا
1638 15 الكاملين
1247 37 البطانة
370 9 أم القرى
8873 123 المجموع
وبناءً على هذه الموجهات شرعت وزارة التربية بالولاية في قيام مائة وثلاث وعشرين مدرسة قرآنية، أي بقيام مدرسة قرآنية في كل قرية بها خلوة بالتعاون مع مجلس خلاوى ولاية الجزيرة، مع متابعة المجلس ورعاية هذه المدارس بالتعاون مع شيوخ الخلاوى في القرى، بحيث تكون الدراسة صباحاً بهذه المدرسة ومساء بخلوة القرآن الكريم بالقرية. وبقيام هذه المدارس القرآنية نتوقع أنْ تشمل دراسة القرآن الكريم في هذه المدارس حوالي ستة آلاف تلميذ من مرحلة الأساس.
وإذا تمّ قيام هذه المدارس القرآنية فإنَّ القرآن الكريم يعمّ طلاب ولاية الجزيرة كما كان عليه الحال قبل الاستعمار، وتختفي هذه الظاهرة في الخلاوى الإعاشية إذ يمثّل طلاب ولاية الجزيرة في هذه الخلاوى نسبة لا تتعدى 5% (خمسة في المائة) من مجموع الطلاب إذ أنَّ أكثر هؤلاء الطلاب من خارج الولاية.
وبهذا تكون قد انتشرت معرفة القرآن الكريم بين عامة المواطنين بالجزيرة، وتكون الخلوة قد عادت إلى رسالتها ومكانتها في المجتمع ريادة وقيادة للحياة في أوجهها المختلفة.
https://sites.google.com/site/mohhnad12013/home/contacts
No comments:
Post a Comment