Wednesday, January 4, 2017

عصار المفازة

الشاعر عمر الحسين محمد خير ..عصار المفازة!!

د. أحمد إبراهيم أبوشوك
كوالا لمبور، ماليزيا

      كتب الأستاذ كمال علي الزين إطلالة حزينة على صفحات "منتديات سودانيز أون لاين"، حيث نعي فيها الشاعر المطبوع والأديب اللوذعي عمر الحسين محمد خير، بلغة راثية، وفرضيَّة مفادها أن بلادي لا تحتفي بسير المبدعين والأعلام، لأن عمر الحسين مات في حلة كوكو وحيداً وغريباً دون أن يعلم بوفاته أحد، "مات كما مات الجاحظ وسط كتبه وأراقه ومراجعه، واكتُشفت جثته بعد ثلاثة أيام، في خلوته ينشد الهدوء لإنجاز عمل أدبي كبير للشاعر حسونه". (الكيك، سودانيز أون لاين) وعضد هذه الفرضية بشهادات صديقه الأستاذ محمد إبراهيم أبوشوك، الذي كانت تربطه بعمر الحسين علاقة ودِّ شفيف، ووشائج قربى من نوع فريد، قوامها الاهتمام بتراث شريحة من شرائح المجتمع السوداني، تقيم على ضفاف النيل الخالد، الذي اكسبها فناً ذواقاً وعطاءً إنسانياً مبدعاً. بحق قد قرأتُ هذه الإطلالة بحزن عميق وأسى جامح، لأنني كنت على معرفة بعمر الحسين ومشروعاته التوثيقية، وكنت أيضاً مشغولاً بجمع بعض القصاصات التي ربما تعينني في إعداد بحث يليق بقامة هذا الرجل المغمور، الذي قصَّرت قامة الوطن المثخن بجراحاته عن تقدير عطائه الدافق. وفي ضوء هذه الإطلالة الباكية بأجفان شادٍ شرعت في كتابة هذه السطور وفاءً وعرفاناً لابن "نوري" الأغر، الذي كان شمعة تذوب وتحترق من أجل إسعاد الآخرين، واستجابة لنداء الأستاذ كمال علي الزين، ذلك النداء المرهف الجريح:

         (عمر الحسين محمد خير )....

شاعر مطبوع وأديب شفبف وأنسان ... رقيق ... أنيق ... حبوب ... وفارس ...

كتب الأغنية الشهيرة :

( شدولك ركب فوق مهرك الجماح * ضرغام الرجال الفارس الجحجاح )

التي تغني بها المبدع الفنان العظيم( سيد خليفة)

عمر الحسين هو من جمع وحقق ديوان ( حاج الماحي ) ذلك السفر العظيم والفريد في مدحا

المصطفي ص ... أنفق فيه كل مايملك ونصف عمره يطوف بين القري والبنادر ... فقدكان

كغيره من أدبنا وتاريخنا ... سيرة تلوكها الأفواه و تتناقلها الألسن دون أن يهتم بتدوينه أحد ......

أخي محمد إبراهيم أبوشوك إبن عمدة البديرية ... مثقف من نوع آخر ... رقيق و

هادئ .... جرحه في فقد أخبه (عمر الحسين) ... لا يطيب .... (أبو شوك) قانوني ضليع ...

يعمل الآن مستشاراً قانونيا لشركة قطر الوطنية لصناعة الأسمنت ... من أبناء تلك الحية

جامعة الخرطوم ....

يذكر صديقه عمر الحسين حين يتنهد في أساً ( البلد دي فيها لعنة .. قتلت معاوية محمد

نور .... ويبدأ في تعديد الأفذاذ الذين إعتصرتهم هذه البلد حتى لفظوا أنفاسهم ... حباً و

عطاءً وظلماً ... حين تأكل القطة أبناءها ) ....

عمر الحسين ... شغله الأدب عن حطام الدنيا .... وقته وماله وجهده ... لا يراها كما

نراها نحن ...

أنتهى عمر الحسين ... في حلة كوكو .... وحيداً .... غريباً .... في زمان مجنون ....

وبلدة تكفر العشير .....

مات عمر الحسين ... دون أن يعلم بوفاته أحد ....

إشتموا رائحته بعد ثلاثة أيام ....

لولا رائحة جثته المتحللة ... لما شعر أحد ... برحيل رجل في عظمة (عمر الحسين) ... في

وطن ملعون ... قد تسمع فيه ... يعني شنو ( عمر الحسين ) ... مايموت ...

كما سمعنا يوماً ( يعني شنو سقطت الكرمك ... برلين سقطتت لمن الكرمك ) ...

عمر الحسين عطرك الذي فاح شذاه ... نشتمه الآن في حديث أبوشوك ..... في قرآتنا لك

وإستماعنا لأولاد حاج الماحي ينشدون (التمساح) ............. ولتدع لهم

رائحة جثتك ... فهذا ما يحبون وما يستحقون .

كمال علي الزين ).

من أين أتى هذا الرجل؟
ابوه الحسين محمد خير من الحسناب وامه ام الخير بت احمد ود عبد الرحمن ود وراق ود الهدي من الهادياب .
أتي عمر الحسين محمد خير من صلب قرية نوري وترائبها، تلك القرية الوادعة على ضفاف النيل، والتي اشتهرت بخلاوى الحواجنير، والحمدتياب، والناطقاب، والكوارير، والعراقاب، أنجبت ثلة من الشعراء والمبدعين أمثال الشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، وأستاذ الفن التشكيلي محمد أبوسبيب المقيم بالسويد. بدأ الصبي عمر رحلته التعليمية في تلك البيئة المعطرة بتراتيل القرآن الكريم، والمادحة بأدبيات حاج الماحي، والمغنية بأشعار حسونه، ومنها هاجر في طلب العلم والمعالي، حيث استقام ميسم تحصيله النظامي في مدرسة خورطقت الثانوية بولاية كردفان، وبعدها آثر الحياة العملية موظفاً ببنك الدولة للتجارة الخارجية (بنك الخرطوم).

هكذا نشأ عمر الحسين نشأة متواضعة كسائر أترابه في الريف، وترعرع شاعراً مرهفاً منذ سني حياته الباكرة، التي تفتقت قريحتها الشعرية بقصيدة نظمها استجابة لرغبة جدته، التي كانت تحفظ مقاطع قصيدة أُنشدت في مدح زوجها الراحل:

بابك ما انقفل ونارك تجيب اللم
وما بتحلف تقول غير استريح حرم

وكانت الجدة تتفرس في حفيدها عمر مشروع حلم يكمل صياغة هذه الأبيات في شكل لوحة شعرية مادحة لفضائل الجد الفقيد، تشفي بها غلواء حدادها المكلوم، وترد غربة ذاتها الضائعة في سماء حزنها المهيب وغياهب حرمانها الجارفة. فهكذا صدق حدسها اللماح وتحقق حلمها الضائع في كفاءة حفيدها عمر، الذي أنشد قائلاً:

شدوا لك رِكب فوق مهرك الجماح
ضرغام الرجال الفارس الجحجاح
تمساح الدميرة الما بكتلو سلاح
ياعصار المفازة ال للعيون كتاح
المال ما بيهمك إن كتر وإن راح
***
بطناً جابتك والله ما بتندم
ويا أسد الكداد الفي خلاك رزم
ويا رعد الخريف الفوق سماك دمدم
***
بابك ما انقفل ونارك تجيب اللم
وما بتحلف تقول غير استريح حرم
***
أبواتك جبير بيسدوا للعوجات
ومطمورتك تكيل للخالة والعمات
وفي الجود والكرم إيديك دوام بارزات
ويا أب قلباً حديد في الحوبة ما بتنفات
***
صدرك للصعاب دايماً بعرف العوم
وفي وسط الفريق في الفارغة ما بتحوم
لا تتلام ولا بتعرف تجيب اللوم
تفخر بيك بنات البادية والخرطوم
***

وكانت هذه القصيدة من روائع القصائد التي تغني بها الفنان الراحل سيد خليفة مادحاً الرئيس السابق جعفر محمد نميري. ويقال أن سيد خليفة عندما صدع بها على خشبة المسرح القومي بأمدرمان كان شاعرنا عمر الحسين رهين محبس كوبر مع رهط من الرفاق، وفور خروجه من السجن، حسب رواية الفاتح التلب، ذهب إلى دار الفنانين بإمدرمان، وطلب من سيد خليفة أن يسحبها من سجل أغنياته المصنفة المجازة، وأخيراً انتهى الأمر بتعهد سيد خليفة كتابةً بأن لا يغني هذه القصيدة في أي محفل عام، وخاصة في حضرة الرئيس نميري.

إلا أن هذا الموقف لا يمنعنا القول إن الشاعر عمر الحسين كان أيضاً مناصراً "لثورة مايو" في مطلع سنواتها الأولى، لأن لدية قصيدة مقررة لطلاب المدارس المتوسطة، وبعض أبياتها تقول:
نعم لبيك يا وطني نعم لبيك يا وطني
وحداؤك يملأ الأكوان شق دجنة الزمن
وحبك بسمة الأسحار أعشقها وتعشقني
****
أيا مايو أيا طفلاً سماوياً على الأيدي حملناه
ويا ركبا بطولياً تدق الصخر كفاه
تقدم أن في التاريخ حرفاً ما كتبناه

وبغض النظر عن الموقف السياسي والمنطلق الفكري، إلا أن هذه القصيدة دون مراءٍ تعكس طرفاً من مواهب عمر الحسين الخلَّاقة، وقدراته الفائقة في نظم الشعر والقصيد. ويبدو أنه بعد هذه المرحلة الصاخبة في تاريخ حياته الفكرية، قد آثر التحول إلى ميدان آخر من ميادين الإبداع الفني والعطاء الأدبي المتداول بين الناس، حيث نذر نفسه لجمع وتحقيق مدائح حاج الماحي وأشعاره.

رحلة البحث عن حاج الماحي (ت 1871م)
الماحي بن عبد الله بن الشيخ بن أحمد بن عبد الله مادح مشهور في منطقة الشايقية، ويقال إن أسرته هاجرت من قرية العقيدة قرب الكتيَّاب، واستقرت بمنطقة الكاسنجر، في بيئة تعتمد حياتها على الزراعة التقليدية القائمة على أنين السواقي، التي كانت خير أنموذج لمفهوم "الاعتماد على الذات" وأفضل تجسيد لشعار "نأكل مما نزرع"، وأبرز معلم من معالم قرى الشمال الرابضة على ضفاف النيل، حيث تشكلت حولها حياة الناس، وعاداتهم الاجتماعية، وقيمهم الاقتصادية. وبفضل حضورها الدائم في الحقل أنيناً وخريراً، وفى البيت رزقاً حلالاً طيباً أضحت الساقية موطن تقديس وتجلة عند "سيد المنجل الحقير"، الذي نسج حولها ضروباً شتى من الفنون والمعتقدات منها: هندسة الساقية، وتدابيرها، وأسماء أطرافها، ومنها: قراءات مناسيب النيل، ومعرفة أنواع الطمي في أوقات الدميرة، ومنها: أساليب الري، والزراعة، وتربية الحيوان، ومنها: الأساطير والمعتقدات التي أفرزها الالتصاق الوجداني بالساقية، الذي جعل الناس ينذرون لها النذور، ويعلقون عليها التمائم من أجل الفال الحسن، ومنها: الوجدان الفني المتمثل في غناء "الأروتي" في الفجراوي والضحوى والعشَّاوي، وإنشاد "التربالة" في مواسم الحصاد وإعداد البوقة (أي الأرض) للموسم الزراعي القادم، ومنها: العدالة في تقسيم الثروة بين الإنسان، والحيوان، والآلة. فلا غرو أن هذه البيئة وصورها الجمالية المعيشة قد أكسبت حاج الماحي حساً شعرياً مرهفاً، تجلَّت طلائعه في الأغاني الغزلية التي كان يتغني بها في الليالي الساهرة على نقمات الطنبور، وإيقاعات الدليب، وزغاريد الحسان. إلا أن عطاءه في هذا الجانب قد ضاع في سلة من أكوام الضياع، ولم تبق منه إلا قصيدة يتيمة حفظها لنا المرحوم عمر الحسين بين ثنايا ديوان حاج الماحي. وقد أُنشدت هذه القصيدة في وصف فتاة ذات حسن وجمال كان يعشقها شاب يدعى ود داؤد، ونافسه فيها شاب آخر يسمى التوم، ولم يظفرا بها بل زُفت إلى صاحب حظوة ثالث، رحل بها إلى منطقة أرقو في ديار الدناقلة، ومقاطعها تقول:

ياقزاز الرومي الرهاف
والعطر في بطنو ينشاف
وعاشة حبة دم الرعاف
وشالا صقراً قالوا ختاف
وخلا ناس التوم في سراف
ومكوي ود داوود كي خلاف
****
ساقا ود كلية الخبير
ساقا شقابا العتامير
وسكنا أرقو الفوق الحفير
من ضهر ترقد فوق سرير
وتتكبت بي توبو الكبير

وبعد بلوغ العقد الثالث من عمره الزاهر تحول شاعرنا العابث من فن الغناء والطرب إلى فن المدائح النبوية والتوسل والتوبة، وكانت قصائده في هذا الشأن تعج بالاقتباسات القرآنية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبار الأولياء والصالحين، وتعكس جزءاً مهماً من قضايا الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي كان سائداً آنذاك. وأخيراً تبلورت حصيلة هذا العطاء الجم في تراثٍ أدبيٍ ثرٍ تركه حاج الماحي لأبنائه وأحفاده ومريديه، الذين ظلوا يحفظونه عن ظهر قلب، ويسمرون به في أوقات أفراحهم، ويثبتون به أنفسهم عندما تعصف بهم الملمات والإحن، بيد أنهم لم يفكروا البتَّة في تدوينه وتوثيق مفرداته، إلى أن أنعم الله عليهم بالأديب النابه عمر الحسين محمد خير.

وفي هذا يقول عمر الحسين: "قد طلبت من بنك الخرطوم للتجارة الخارجية (بنك الخرطوم حالياً) أن يفرغني لمدة ستة أشهر لجمع شعر حاج الماحي، وشرح كلماته، وتسجيل قصائده على أشرطة، ولم تكن المدة كافية، وعملت كل جهد، وطبع الكتاب كمرجع علمي في ورق "رونيو"، عام 1971م، تحت أشراف وحدة أبحاث السودان (سابقاً)، جامعة الخرطوم. "ثم واصلت العمل فيه سبع سنوات متصلة في أوقات فراغي، وأنا أوفق بين علمي في البنك وعملي في دراسة شعر الشاعر، فخرج حصيلة ذلك هذا الديوان." أي ديوان حاج الماحي الذي صدرت طبعته الأولى عن الدار السودانية للكتب-الخرطوم- عام 1978م على وجه التقريب، لأن الطبعة نُشرت دون تاريخ.
واستهل عمر الحسين هذا الديوان بمقدمة ضافية، عرض فيها جذور حاج الماحي الشعرية، وتكوينه الفني، ونزوعه نحو الإبداع في صدر حياته الغنائية العابثة وعجزها المفعم بأدبيات المتصوفة وتراثهم الجامع بين علوم الشريعة وإشراقات علم الباطن. ولعليَّ اتفق في هذا المضمار مع الأديب الناقد مصعب الصاوي، الذي ثـمَّن هذه المقدمة، واعتبرها وعاءً جامعاً لتجربة حاج الماحي ذات البناء المتناسق الحلقات، التي استمدت منهجها من الشاعر علي ود حليب [ت 1819]، الذي يُعدَّه الأستاذ قرشي محمد حسن رقماً مؤسساً لفن المديح النبوي وطقوسه الإنشادية في السودان (مصعب الصاوي، "عمر الحسين باحثاً ومحققاً"، صحيفة الصحافة). ويبدو أن هذه العلاقة الوثيقة وذات الفصول المتداخلة بين مدرسة حاج الماحي ومدرسة الشيخ علي ود حليب قد كانت واحدة من الهواجس التي دفعت الأستاذ عمر الحسين للبحث والتنقيب عن تراث هذا الأخير، الذي ظل مخطوطاً حبيس مزاجه الحاذق، الذي ينشد التجويد ويبتغي الكامل في أي عمل أدبي تصدى له.
أما منهجه في تحقيق أشعار حاج الماحي وآثاره فقد اتسم بالموضوعية، واستند إلى "مجموعة متداخلة من أساليب وتقنيات جمع المادة التراثية، بدأها بالروايات السماعية، ثم مراجعة وتحقيق الرواية في أكثر من مصدر، ثم تدوين الرواية التراثية في صورتها النهائية، واستخراج الهوامش وتفسيرها وفق قواميس العامية، ثم تتبع صيرورة الرواية، وقياس مستويات التغير والثبات في الرواية الواحدة." (مصعب الصاوي) وفوق هذا وذاك يأتي تأهيله التراثي، وقريحته الشعرية المتفتقة، وفهمه الثاقب لدقائق البيئات المحلية التي عاش بين ظهرانيها حاج الماحي والجموع التي تفاعلت مع مدائحه وأشعاره، وهنا يكمن سر تفرد الأستاذ عمر الحسين، وهو تفرد أعانه على تحقيق آثار حاج الماحي، وفهم مفرداتها، وتفسير تلك المفردات بأسلوب سلس وجذَّاب، في هوامش جمعت وأوعت كل ما هو طريف وجدير بالفهم والاستيعاب.
وبفضل هذه الجهود الخلَّاقة صدر ديوان الماحي في شكل تحفة فنية جديرة بالاقتناء، زينها تصميم غلافها الخارجي، ذو الألوان الثلاثة: الأسود، والأحمر، والذهبي، وأعطاها بُعد رمزياً رسم ثلاث شخصيات تقف منشدة لجموع غير منظورة، ومعها آليات طقسها الإنشادي (طارات، ومفردها طار). زد على ذلك أن الديوان قد دُوِّن بخط الفنان المبدع توفيق عثمان علي، الذي أكسبه بُعداً تراثيا آخر، بحجة أن عناوينه الداخلية رُسمت في تشكيلة من الثُلث، والديواني، والرقعة، وأن متونه وهوامشه نُسجت بخط النسخ الذي تواضع عليه أهل خلاوى القرآن في السودان.
وقد حمل هذا الديوان الفريد بين دفتيه مائة واثنتين وثلاثين قصيدة مادحة، كل واحدة منها تضاهي في جمالياتها الأُخرى، ولها وقع مميز في نفوس عشاق التراث السوداني ومحبي فنون المدائح النبوية، ولها مناسبتها ومناخها الخاص الذي تُنشد فيه. فمحبي إشراقات علم الباطن وكرامات الأولياء يفضلون السماع إلى قوله في التمساح: "يا رحمن أرحم بي جودك *** دلي الغيث ينـزل في بلودك"؛ والذين يشدون رحالهم صوب المسجد الحرام يؤثرون السماع إلى قوله في الحجاز ووصف مناسك الحج: "اليوم الحجاز لاح ضو براقو *** ذكرني الحبيب زاد حبي مشتاقو"، و"نعمه نعمة القام منسرق *** زار محمد خير الخلق"، و"وا شوقي ليك يا أحمد عظيم الشأن*** قنديل المدينة الهاشمي العدنان"، و"شوقي لي مدينة العلم *** مركز الفُصاح والعجم"؛ وأدبيات الجغرافية المحلية نجدها في قصيدة المشهور: "شوقك شوى الضمير *** بطراك مناي أطير". هكذا كان حاج الماحي موسوعياً في تصويره لضروب الحياة الاجتماعية والدينية، وهكذا كان الأستاذ عمر الحسين صاحب سبق في جمع هذا التراث الموسوعي البديع.

عمر الحسين وحسونه شاعر الجمال
بجانب ديوان حاج الماحي أصدر عمر الحسين عدة دواوين شعرية منها "ديوان اللهيب" و"ديوان كسلا"، بيد أن شغله الشاغل كان منصباً تجاه جمع أشعار وآثار شاعر الشايقية الفطحل حسونه، الذي أنشد للخاصة والعامة قريضاً متميزاً، وكان بحق متنبئ زمانه، لأن ظل في حالة تصالح عارضة وخصومة مستعرة مع ذوي الجاه والسلطان. ونلتمس ذلك في قصيدته المادح للعمدة ود بشير أغا، عمدة القرير:
ود بشير عمدة مو عمدة سماسير
خيلو بين الجبلين تغير
جر كرسيوه مع المدير
***
وإذا أنعم النظر في مقاطع هذه القصيدة، نلحظ فيها هجاءً مبطناً لبقية عمد الشايقية الذين وصفهم بالسماسير (أي سماسرة السلطة)، والجبلين إشارة إلى العمدة ود كنيش، عمدة نوري، الذي مدحه بقصيدة مطلعها: "أنت يا جبل البركل الما بطلعوك"، وذلك إقراراً برمزية حضوره الشامخ في المنطقة، علماً بأن جبل البركل يمثل أعلى قمة في الولاية الشمالية، والجبل الآخر هو العمدة ود ضكير، الذي مدحه بقوله:
شنو البركل الجبل أبو شريمه
ود ضكير جبل ابن عوف الا حزيمة

ويظهر سحونه في هذه الأبيات محاباته للعمدة ود ضكير على حساب العمدة ود كنيش، فلا شك أنها مقاربة أشبه بموقف أبي الطيب المتنبي عندما هجر بلاط سيف الدولة بن حمدان وآثر البقاء في كنف كافور الإخشيدي، حيث أنها تعكس موقف الشاعر حسونه الذي كان يتكسب بشعره عند ذوي السلطان والجاه. ورغماً عن ذلك فقد كان حسونه شاعراً محباً للجمال ومداحاً للغواني، ويتجلى ذلك في وصفه لجمال الباشا في سوق المقل، ولستنا بت الشيخ في منطقة العفاض، حيث أنشد فيها قائلاً:
سلام يا ستنا في الفوق في مهيرا
وعلو لها القصر قبل أبو عميره
زولاً في الخلائق أبوه أبو نايب
وأبوك حاج مكة سيد تمرو أب زرايب

كل هذه القيم الجمالية تعكس طرفاً يسيراً من قامة الشاعر حسونه الشامخة، وتبين جزءاً من ذوق عمر الحسين الرفيع، الذي جعله يكرس جهده ووقته وماله في جمع أشعار حسونه وآثاره، ويقال أنه شرع في تقديم هذا الديوان المهم وشرح متونه في حواشٍ مُذهبة، إلا أن المنيَّة عاجلته قبل أن يرى حلمه المرجو، ويخرج ديوان حسونه إلى النور في ثوب قشيب يليق بقامة هذا الشاعر العملاق.
وفي خاتمة هذه المدارسة يطيب ليَّ أن أقدم دعوة صادقة لأصدقاء المرحوم عمر الحسين (الفاتح التلب، ومامان، والكيك، ومحمد أبوشوك، وأحمد الشايقي، وسيدأحمد العراقي، وعبد الجليل محمد خير) ليتواصلوا فيما بينهم، وليصدروا لنا ديوان حسونه، وفاءً وعرفاناً إلى صديقهم موسوعي النـزعة ومتعدد المواهب، تحسبناً أن يصدر هذا العمل الرائد تحت رعاية أية مؤسسة بحثية أو ثقافية، يمكنها أن تهيئ المناخ العلمي المناسب، الذي يعين في تصميم مادة هذا السفر القيم، وصياغتها من قبل خبراء في الدراسات السودانية بضروبها المختلفة من تاريخ، وفلكلور، ولغويات.

رحمه الله

No comments:

Post a Comment

من هو الافضل للسودان

ويسألونك ..؟ محمد امين ابوالعواتك في اوقات الظلم وغياب السلم والامان والفقدان الموجع.. إن من يصنع الفرق هو كل من يوقد الامل وينشر شعاعه ويصن...

Search This Blog