*حل جهاز امن الدولة ..اعادة قراءة للخطأ التاريخي*
نشر بتاريخ 11 - 11 - 2009م
https://www.sudaress.com/smc/12380
*ظهر السودان أصبح مكشوفاَ امام الاطماع القوي الخارجية باختراق اسرار الوطن.*
*تم حل الجهاز وإعتقال الضباط وايداعهم في سجن كوبر وهم ما زالوا في الخدمة!*
*واجه المجلس العسكري عند تكوينه ضغطاً عنيفاً لاتخاذ اجراء حازم ضد جهاز امن الدولة بمبررات هي الممارسات الخاطئة لبعض افراد الجهاز.*
*المعارضة ارادت قفل الطريق امام افراد الجهاز لعدم فضح تعاون قياداتها مع نظام مايو.*
*اتفق الجميع علي ان قرار حل امن الدولة السابق عقب انتفاضة ابريل 1985م كان خطأ تاريخياً لا يغتفر، باعتباره خطوةعرّت ظهر السودان وجعلتة مكشوفاً امام اطماع القوى الاستعمارية والخارجية. ودفع السودان اثمان باهرة من جراء قرار الحل الذي ادى الي نتائج وخيمة عصفت بملفات استراتيجية حساسة للسودان، في غمرة نشوة احزاب الانتفاضة التي حرصت على مصالحها فقط دون مصلحة الوطن، لتبدأ ظاهرة بيع وشراء الملفات للاشخاص والجهات والدول، في ابشع ظاهرة اختراق لاسرار الوطن. في لحظة انفعال وفوران غابت الحكمة، ولكن يبقى قرار الحل درساً تاريخياً للاجيال. ومن خلال هذا الملف نحاول اعادة قراءة هذا الحدث التاريخي من جديد برؤية تحمل العظة والاعتبار.*
خلفية تاريخية
عندما قرر محمد علي باشا حاكم مصر في 1821 غزو السودان لم يجد صعوبة في ذلك، لان عيونه وجواسيسه التي بثها في السودان اخبروه بتهالك الدولة السنارية التي كانت في رمقها الاخير بفعل عوامل كثيرة اهمها الصراعات الداخلية.
وبالتأكيد لم يجد جواسيس محمد علي باشا أي صعوبة في الحصول على المعلومات لعدم وجود جهاز مخابرات حتى لو كان محلياً، لذا كان ظهر الدولة السنارية مكشوفاً. وظل السودان هكذا طيلة فترة الحكم التركي التي فتحت السودان على مصراعيه امام دخول الاجانب الذين اخترقوا السودان كله بدعاوي التبشير ومحاربة الرقيق واكتشاف منابع النيل. الى ان جاءت المهدية الى الحكم التي كان لدى قادتها حس امني قوي وتبعث عيونها للتجسس على تحركات الحكومة في المركز والاقاليم، ولكن لغياب المنهجية العلمية المتعلقة باصول العمل الاستخباري لم تستطع الصمود امام اعتى الاستخبارات العالمية آنذاك وهي الاستخبارات البريطانية، مما ادى في النهاية لارتكاب الدولة المهدية عدة اخطاء عسكرية وادارية واقتصادية، ادت في النهاية لسقوط المهدية كأول حكومة وطنية في تاريخ السودان الحديث.
ايام الاستعمار
مثّل سقوط الدولة المهدية على يد المستعمر الانجليزي بعد معركة ام دبيكرات ومقتل الخليفة عبد الله التعايشي، حدثاً جديداً للسودان اذ فرضت الادارة البريطانية نظام حكم جديد قائم على النمط الانجليزي في الادارة، وخوفاً من قيام ثورة المهدية من جديد والخوف من الوعي الوطني المبكر، خاصة ان قيادة الحركة الوطنية كانت في ايدي المستنيرين من السودانيين كما يوضح محمد عبد العزيز وهاشم ابورنات في كتابهما (اسرار جهاز الاسرار ) وارتباط الحركة الوطنية ارتباطاً وثيقاً باذرعها ونحو الوعي القومي بمصر. وهكذا لم يفزع الوعي الوطني بالشمال المتحالف مع مصر الادارة البريطانية فحسب ، بل كان يشكل خطراً عليها في واقع الامر. وما كان من الادارة البريطانية الا إحباط كل محاولة لارتباط السودان بمصر مستقبلاً، وعلى هذا اصبحت الحكومة تمالي الجماعات والزعماء القبليين الذين رغبوا في فصل السودان عن مصر. كما لم توافق اطلاقاً على ربط مستقبل الجنوب بالشمال. دعت الحالة هذه الادارة البريطانية على احباط كل محاولة للارتباط بمصر، لذا فقد قامت بإنشاء ادارة صغيرة في مكتب السكرتير الاداري (وزارة الداخلية) مهمتها تتبع ذلك النشاط ورصده والعمل على الحد منه وسمتها بقلم المخابرات ، تطورت هذه الادارة لتصبح مهامها اكبر من رصد ذلك النشاط، وايضاً محاربة النشاط الشيوعي والذي كان يشار اليه بالنشاط الهدام. سمي المكتب (بالقسم المخصوص) والحق بكل وحدات الشرطة بالبلاد، وكان كل من يعمل من رجال الشرطة به لا يرتدي زي الشرطة اثناء العمل، لذا سماه رجل الشارع رجل (البوليس السري) او (بوليس الجلابية) ، وكان لا يفرق بين بوليس المباحث والبوليس السياسي. واستمر الحال الى ان حدث تمرد الجنوب في العام 1955 قبيل استقلال السودان، وهذه الحالة استدعت قيام عمل استخباري جيد، حيث الحقت وحده امنية بكل رئاسة الشرطة وبكل المديريات . وايضاً الحقت وحدات استخبارية بكل حاميات الجيش. واستمر الوضع هكذا الى ان تبلورت الحاجة للامن في مطلع الاستقلال، وعليه فقد انشأت وزارة الداخلية ادار خاصة للامن سميت (ادارة الامن الداخلي ) واخرى (ادارة الامن الخارجي) مثل بقية الدول خاصة والسودان حديث عهد بالاستقلال والحفاظ على كيان الدولة من اطماع الطامعيين، وكشف أي نشاط يهدد مسيرة الدولة الحديثة الاستقلال خاصة وأن الجنوب لم يستقر بعد.
نشأة جهاز الأمن القومي
نشأ جهاز الامن القومي في اواخر عام 1961 تحت اشراف الرائد مامون عوض ابوزيد عضو مجلس ثورة مايو والضابط السابق بالاستخبارات العسكرية. وفي عام اغسطس 1978 دمج جهازي الامن القومي والامن العام في جهاز واحد تحت مسمى جهاز امن الدولة.
(انا ..... قد تم تعييني عضواً عاملاً في جهاز امن الدولة. اقسم بالله العظيم او اعلن صادقاً بان يكون اخلاصي وولائي لجمهورية السودان ولثورة مايو. وان اؤدي عملي بتفاني واخلاص لحماية وتأمين السودان ومكاسب ثورة مايو، وان ابذل غاية جهدي لمحاربة الرجعية والاستعمار والصهيونية واجهزة مخابراتها، وان اطيع رؤسائي، وان احافظ على سلامة نفسي والا افشي أي سر احمله او اعلمه اثناء عملي بالجهاز او بعد تركي العمل، الا اذا اقضت ذلك المحافظة على سلامة الدولة وامنه. وانا التزم بهذا القسم ولو ادى الى التضحية بحاتي . والله على ما اقول شهيد).
هذا القسم كان مدخل العمل في جهاز امن الدولة في فترة مايو، والذي اكتسب شهرة كبيرة من داخل السودان وخارجه، بأعتباره اول جهاز امن حديث وطني للدولة السودانية. ويقول العميد امن حسن بيومي انه قد بدأ بداية متواضعة من ناحية الاعداد، حيث قام الرائد مامون عوض ابوزيد بإنتداب عدد من ضباط القوات المسلحة الممتازين والذين كانوا يعملون في ادارة الاستخبارات العسكرية للعمل في الجهاز، كما استوعب عدد من الجامعيين المتخصصين في شتى المجالات العلمية، ولم يكن لاحد منهم أي دراية بشؤون الامن، هذا بالاضافة الى انتداب عددمن موظفي الدولة في الخدمة المدنية. وكتنظيم انشأت الاقسام التالية التي كان يعمل الجهاز في اطارها :-
القسم السياسي
قسم المخابرات الخارجية
القسم الدبلوماسي
القسم الاقتصادي
القسم الفني
قسم المراقبة والتحري
قسم السجلات
قسم المعلومات
المستشار القانوني
الشؤون الادارية والمالية.
قصة الحل
اصدرت القيادات العامة لقيادة الشعب المسلحة البيان رقم 5 الخاص بحل جهاز امن الدولة، وان تتولى قوات الشعب المسلحة حراسة وحصر ما به من اسلحة واجهزة اتصال داخلية وخارجية ومعدات ووثائق في كافة انحاء القطر.
وكانت العاصمة قد شهدت تظاهرات كبيرة توجت بانحياز القوات المسلحة للشعب حتى تحقق نصر السادس من ابريل. وخرجت المسيرة التي وصلت حتى مقر القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة وهي تردد الهتافات الداوية بحل جهاز امن الدولة، وتؤمن على الجيش الواحد والشعب الواحد، وان وحماية الثورة مطلب شعبي، حتى استجابت القيادة العامة واصدرت البيان رقم (5) بحل الجهاز.
اصدر التجمع النقابي بيانه الثالث الذي اكد ترحيبه باعلان قوات المسلحة انحيازها لجانب الشعب ، وامن البيان على ان الهدف الاساسي للانتفاضة الشعبية يظل كما هو تحقيق الديمقراطية بكفالة الحريات العامة ، حرية التنظيم ، حرية التعبير والعقيدة ، والمدخل لكل ذلك يكمن في اعتقال الذين افسدوا الحياة العمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من مسؤولي النظام المايوي وذمرتهم الحاكمة وتصفية جهاز امن الدولة ومعاقبة افرادة.
يحكي العقيد امن هاشم ابو رنات قصة حل جهاز امن الدولة والتي سردها في كتابه (اسرار جهاز الاسرار) انه في يوم 11 ابريل 1985، تحديداً بعد (5) ايام من قيام الانتفاضة، قد علم ان كشف المعتقليين من الوزراء والمسؤوليين قد اضيف لهم في ليلة (10) ابريل 1985 اللواء عثمان السيد مدير الامن الخارجي. ثم في الصباح بدأ الافراد يحضرون الى الجهاز، اذ ان قرار تصفية الجهاز كان قد صدر منذ يومين، الا ان اللواء السر اب احمد والذي كُلف بالتصفية كان قد اخطر الجميع بأن يستمروا في عملهم، وقد قام بوضع الوحدات ذات الاختلاط المباشر بالجمهور تحت التحقيق ، مثل وحدة المراقبة والتحري، وحدة امن العاصمة القومية والقسم الاقتصادي، اما بقية الوحدات الخاصة مستمرة في عملها كالعادة . كما ان سكرتارية رئيس الجهاز اصبحت تحت امرة اللواء السر. وهنا يعتقد ابو رنات ان ما فعله (السر اب احمد) كان عين العقل واجراء رجل خبير، كان ممكن محاسبة كل فرد في الجهاز بهذه الطريقة وفي هدوء تام. وكان من الممكن في خلال شهور قليلة استبدال كل الكادر او معظمه بكادر آخر بحيث لا يؤثر ذلك على العمل تأثيراً كبيراً. ولكن جهود العميد ا.ح محمد بخيت والذي كان يتولى منصب ضابط ركن الرئاسة لجهاز امن الدولة باءت بالفشل، والذي ذهب الى الفريق سوار الذهب والذي اعتذر له قائلاً الموضوع جاء الينا في شكل تعليمات من كل الضباط ، وهنا يستنتج ابو رنات بان المجلس العسكري كان مجلساً هيكلياً بدأ بالانصياع لضغوط الضباط واستمر على هذا المنوال ، او هكذا اتفقوا ان يصوروها، كأن الانتفاضة خالية من أي تخطيط، وكأن الغرض ان يذهب نميري وتحدث المعجزة.
اما السفير عثمان السيد أحد كبار ضباط جهاز امن الدولة فيقول انه في يوم السادس من ابريل وفي التاسعة صباحاً اعلن قرار الجيش استلام السلطة، ونحن في جهاز امن الدولة فوجئنا بدخول دبابة الى مباني الجهاز . ويضيف ان سوار الذهب جاء الى اللواء عمر محمد الطيب صباحاً واخذه معه الى القيادة لكي يسمع اجتماع القيادة، وانه يريد ان يسمع بنفسه. وفي منحى آخر يقول عثمان السيد ان قادة الانتفاضة قال لهم اذهبوا او اجلسوا في مكاتبكم. وبعد فترة اعلن بيان سوار الذهب الذي حل الحكومة وحل جهاز الامن.
وفي حوالي الساعة الحادية عشر صباحاً جاءت قوة من الجيش يقودها آنذاك العميد عمر حسن احمد البشير الرئيس الحالي للسودان، والذي سلم عليّ وتعامل معي بشكل طيب، وافهمنا ان ما يقومون به هو اجراءات.اما العميد امن (م) حسن بيومي يقول في كتابه (امن الدولة امام محكمة التاريخ) انه بعد الانتفاضة استمر العاملون في الجهاز في اداء دورهم كاملاً دون توقف، ومن البداية عين المجلس الانتقالي اللواء كمال حسن احمد رئيساً للجهاز ومديري ادارة الامن الداخلي والخارجي نواباً له، واجتمع ثلاثتهم باعضاء المجلس بالقيادة العامة للقوات المسلحة. وبعد فترة الغي قرار تعيين اللواء كمال حسن احمد وتم تعيين الفريق السر محمد احمد رئيساً للجهاز، بعد تغيير اسم الجهاز من جهاز امن الدولة الى جهاز الأمن الوطني.
وباشر الفريق السر مهامه في الجهاز ثم صدر قرار لاحق بإعتقال كل ضباط جهاز امن الدولة وحل الجهاز وايداعهم جميعهم (الصالح مع الطالح) في سجن كوبر العمومي وهم ما زالوا في الخدمة، وتم إقتياد اغلبهم من مكاتبهم اثناء ساعات الدوام العادية، مشكلين بهذا التصرف خطاء نتيجته تضامنهم جميعاً، الصالح والطالح، من اجل اخفاء الحقائق والتكتم على ما كان يجري من ممارسات في الجهاز كنوع من التحدي للسلطة الجديدة. ثم اعقب هذا القرار قرار آخر يقضي بإحالة كل ضباط جهاز امن الدولة للتقاعد، وبهذا القرار طويت صفحة من تاريخ الاجهزه الامنية في السودان.
*ويرى الكاتب الصحفي محمد سعيد محمد الحسن ان اخطر قرار اتخذ بعد اعلان القيادة العامة للقوات المسلحة الانحياز للشعب واسترداد الديمقراطية الثالثة في ابريل 1985 تمثل في حل جهاز الامن الوطني، لقد كان قراراً مستعجلاً وخاطئاً في حق امن البلد واهله وادى الى نتائج خطيرة.*
ويبرر العقيد هاشم ابو رنات مبررات حل جهاز امن الدولة لمواجهة المجلس العسكري عند تكوينه ضغطاً عنيفاً لاتخاذ اجراء حازم ضد جهاز امن الدولة بمبررات هي الممارسات الخاطئة لبعض افراد الجهاز، ووجود اخطاء في قيادة الجهاز والحرص الشديد من المعارضة لخنق صوت الجهاز لسببين:
اولهما التغطية علي نشاطات المعارضة وقفل الطريق امام افراد الجهاز من عمل شئ، ولعدم فضح التعاون الذي كانت تقوم به المعارضة وبعض قياداتها في مايو. وايضاً من الاسباب حرص اثيوبيا وليبيا على ايقاف نشاط الجهاز القوي والغيرة من اجهزة الامن الاخرى. واخيراً محاولة القوات المسلحة وخاصة الاستخبارات العسكرية القاء تبعات حماية ثورة مايو على الجهاز وحدة.
ويتساءل العميد امن م حسن بيومي عن قدرات جهاز امن الدولة الذي استطاع وبكفاءة عالية ان يدير ويواجة ويتغلب ويعالج كل الازمات التي مرت على البلاد طيلة فترة حكم ثورة مايو، سواء كانت هذه الازمات سياسية او اقتصادية او عسكرية او امنية واجتماعية. اذن لماذا فشل هذا الجهاز في ازمة ابريل السياسية عام 1985؟ والجواب يرجع الفشل لتهميش دور الجهاز لادارة الازمة ولاسباب اخرى منها
انشغال اللواء عمر في الآونة الاخيرة بمسئوليات النائب الاول ، ولم يعر الاهتمام الكافي لما كان يجري في الجهاز، فتحول التنافس بين الادارات الى صراع، واصبح بعض الضباط الذين ينتمون الى ادارة واقسام معينة يتصرفون بفوقية تلفظها طبيعة العمل في الاجهزة الامنية، لانها تخل بقواعد الضبط والربط. كما ان كشوفات حركة تنقلات القناصل ومساعديهم اصبحت تضم الاقارب والمحاسيب وبالواضح دون التقييد بمعايير الكفاءة والاداء والمظهر الجيد. وكانت بعض المناصب تفصل تفصيلاً للخاصة هنالك ضباط ملحقيين اداريين يعملون بالخارج اتوا بافعال مخلة بالامانة ومنافية للخلق وكان من المنتظر محاكمتهم وابعادهم من الخدمة، ولكن من اجل احداث موازنات معينة لصالح بعض المخططات ابقوا عليهم، وحوّل بعضهم من قنصليته تعتيماً على ما هو اخطر، ايضاً اطلاق يد مناديب احد الاجهزة العريقة في التحرك بحرية مطلقة داخل الجهاز والاتصال باي مستوى من الضباط الامر الذي يتعارض مع التقاليد والاعراف المألوفة بين الاجهزة، ومن الاسباب اشراك وتقديم اهل الثقة على اهل الخبرة في التعامل مع القضايا الامنية ذات الحساسية العالية، واستخدام اهل الثقة لنظرية التعامل الخارجي هذه المرة بصورة معكوسة لضرب الجبهة الاسلامية وفق حسابات سياسية غير موضوعية ومعلومات امنية تحليلية وحسابات قياسية خاطئة.
ايضاً اعدام محمود محمد طه وقضية ترحيل الفلاشا وعدم الاخذ بما جاء في تقارير الجهاز بخصوص محمود محمد طه بالرغم مما كانت تحتوية من معلومات وحسابات دقيقة تبرز سلبيات وايجابيات المخاطر الداخلية والخارجية، وتوفر البدائل امام صاحب القرار للخروج من المطب السياسي.
الفراغ الأمني
لاشك أن حل أو تصفية جهاز أمن الدولة بالصورة التي ذكرناها سابقاً عرض البلاد إلى جملة من الأخطار الأمنية تتمثل في انكشاف ظهر السودان للمخابرات الخارجية وهرولتها للحصول على معلومات وملفات الجهاز المنحل وظل السؤال الصعب كيف تسربت قوائم المتعاونين مع جهاز الأمن في السودان إذ يقول الكاتب محمد سعيد محمد الحسن في تقديمه لكتاب العميد أمن (م) حسن بيومي (معضلات الأمن والسياسة في السودان) إن أخطر قرار اتخذ بعد إعلان القيادة العامة للقوات المسلحة الانحياز للشعب واسترداد الديمقراطية الثالثة في إبريل 1985م تمثل في حل جهاز الأمن الوطني ووصفه بأنه كان قراراً مستعجلاً وخاطئاً في حق أمن البلد وأهله، وأدى إلى نتائج خطيرة أقلها وحسبما نقل مسئول وقتها، أن جهات بعينها استطاعت في دوامة قرار الحل المباغت الحصول على ملفات بالغة الأهمية وقيل أن السفارة الإثيوبية بالخرطوم عرفت بقوائم مسئولين إثيوبيين تعاملوا مع جهاز الأمن الوطني وفور وصولها إلى أديس أبابا تم إعدامهم وذلك في عهد الجنرال منقستو هيلي مريام كما سُجل أن مسئولاً أمنياً قدم للسودان وفق اتفاقية أمنية مع الجهاز فلما جاء قرار حله سارع المسئول الأمني بتقديم نفسه كرجل بر وإحسان وتحدث للأجهزة الإعلامية باعتباره مهتماً بأمر المشردين من ضحايا الحرب من أبناء الجنوب، لقد قدم نفسه وكأنه لا يمس بصلة رسمية إلى حكومة بلاده ولولا غياب جهاز الأمن والغفلة الأمنية السودانية التي أحس بها لما كان ذلك ممكناً، فقد كان مندوباً لجهاز بلاده لدى جهاز أمن الدولة السوداني، ونقل رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي بعد انتخابه كرئيس للحكومة المنتخبة في إبريل 1986م في الأكاديمية العسكرية العليا، أن رئيس حكومة الانتفاضة الشعبية الدكتور الجزولي دفع الله قال له حين سلمه السلطة (أني أعتذر لكم يا سيادة الرئيس مرتين، مرة لعزل جهاز أمن الدولة، والأخرى عن عدم تسليمك جهازاً بديلاً) وقال الصادق المهدي في حديث مؤخراً عن أسباب سقوط حكومته (أنه لم يكن لديه قرنا استشعار) ويقصد وجود جهاز أمن كفء. ويقول العميد أمن حسن بيومي في تأثير حل جهاز أمن الدولة على السودان وأوضاعه أن هناك تضارب في القرارات التي صدرت في الأسبوع الأول من الانتفاضة بحل جهاز أمن الدولة لأن عدد من أعضاء المجلس الانتقالي لم يوافقوا على قرار الحل ولم يكشفوا حينها لنا حقيقة الضغوط التي مورست عليهم من التجمع الوطني حفاظاً على ماء الوجه ووضح هذا التردد والتضارب في تعيين اللواء كمال حسين أحمد رئيس الجهاز ثم إلغاء هذا التعيين وتعيين الفريق السر محمد أحمد رئيساً للجهاز وتغيير اسمه إلى جهاز الأمن الوطني ثم حل الجهاز واعتقال جميع أعضاءه، ثم قرار إحالة كل الضباط بجهاز الأمن للتقاعد وانحصرت مسئولية حل جهاز الأمن في المجلس العسكري الانتقالي وفي التجمع الوطني، وقد شاركت بعض الأوساط بأن مندوب مخابرات دولة مجاورة شارك في المظاهرات التي كانت تطالب بحل جهاز الأمن، وأننا لا نستبعد هذا الأمر تماماً بالرغم من أن أي تصرفات من هذا النوع في مثل هذه الظروف تعرضه للحظر الشخصي وتعرض بلاده لمخاطر لا يعرف أحد مداها والشيء المؤكد بأن قرار الحل يكون قد أدخل السعادة في نفوس كل الدول التي لها مصالح في السودان ناهيك عن أجهزة مخابراتها العاملة في السودان تحت أي ساتر من السودان، ويرى بيومي أن ما فعلته جبهة الهيئات في عام 1964م تكرر بنفس الصورة في إبريل 1985م على يد التجمع الوطني والمناصب التي كانت تسيطر على جبهة الهيئات هي نفس العناصر التي تسيطر على التجمع الوطني بإضافة البعثيين هذه المرة، أما في تجربة إبريل 1985م لم يحدث للأمن ما حدث في أكتوبر 1964م، أي لم تحدث خلخلة في الأمن هذه المرة وإنما الذي حدث هو فراغ أمني كامل وخطير وطالب الشيوعيون والبعثيون بنشر كشوفات المصادر والمتعاونين مع الأمن ومارسوا كمية من الضغوط على المسئولين وعلى بعض أعضاء الجهاز الذين كانوا المعتقل من أجل معرفة أسماء عناصر الأحزاب التي تعاونت مع الأمن وتمكنت بعض الأحزاب من الحصول على بعض المستندات ثم نشرها في صفحات الجرائد اليومية والمملوكة لهذه الأحزاب.
ويرى العقيد هاشم أبورنات بأن حل جهاز أمن الدولة خيانة عظمى دون أدنى شكل، وظل السودان وسيظل يدفع ثمنها غالياً.. ويتساءل هل حدث قرار الحل من المجلس العسكري الذي يفترض فيه أنه عليم بدور أجهزة الأمن وأهميتها ومهما كانت الحجة رغبة الشعب، والشعب كان يومها في ثورة، هل تستجيب لكل طلباته وإن كانت خطأ؟ لنفترض أن الشعب نادي لا حكومة مطلقاً، لا نريد حكومة، هل كا المجلس العسكري سيوافق؟ ويلبى رغبة الشعب أم لشيء في نفس يعقوب قضاها؟ إن مسألة حل الجهاز رمى الشعب بها لأنها جريمة كبرى، لكن التاريخ لن يغفر لمن ارتكبها.
ويتساءل مؤلفا كتاب (أسرار جهاز الأسرار) العميد عبد العزيز والعقيد هاشم أبورنات أسوأ سرد وصورة لما وقع مباشرة بعد حل جهاز أمن الدولة على النحو الآتي: إن عملاء يتبعون لجهاز المخابرات السوداني كانوا مزروعين في دول أخرى، أنقطع بهم فجأة ودفعة واحدة، وعملاء كانوا في وسط الغابة مزروعين في الجيش الشعبي لتحرير السودان، وعلاقات مع بعض المعارضين لأنظمة أخرى صاروا كلهم في عراء لا ساتر فيه إلا الصدفة المحضة.
وفي الخرطوم بدأت تنتشر الإشاعات المضادة تتهم أشخاصاً بعضهم رموز في المجتمع بأنهم كانوا ضباطاً في جهاز أمن الدولة ووقعت بعض الصحف في كمين هذه الإشاعات وصارت بقصد أو بغيره تروج لها.
وتضيف الكاتبة الصحفية حنان بدوي في تحقيقها عن حل جهاز أمن الدولة الذي نشر في صحيفة السوداني عن انهيار منظومة الأمن السوداني مباشرة بعد صدور قرار (تصفية جهاز أمن الدولة) لأن الرتيبات الإدارية للقرار لم تكن تحمل أي مضامين تؤكد أن متخذي القرار تحسبوا لما بعد القرار وأن عشرات من عملاء الجهاز في الداخل والخارج انقطعت خيوط الاتصال بهم دفعة واحدة ومارست الأحزاب السياسية عمليات نهب لمعلومات الجهاز في وضح النهار، استياء من الحرز القومي من ثروة المعلومات الاستخباراتية لدى الجهاز بل وبدأت بعض الأحزاب تستخدم هذه المعلومات في الابتزاز وتصفية الحسابات السياسية.
ويضيف العميد أمن (م) أبوبكر حسن بشارة في إفاداته لصحيفة السوداني أن الأحزاب السياسية كانت وراء قرار حل جهاز الأمن حيث سعت سعياً حثيثاً للضغط على المجلس العسكري لحل جهاز الأمن خوفاً من كشف أوراق التجمع الذي تعتبره الأحزاب المكون الرئيسي له، حيث كان جهاز الأمن كاشفاً لكل أوراق الأحزاب السياسية وأنشطتها المختلفة ومصادر تمويلها والجهات التي تتعامل معها من الدول المجاورة إضافة لوجود احتكاكات بين الوحدات العسكرية الأخرى وجهاز الأمن.
اللواء عثمان السيد قال عن تأثير حل جهاز الأمن: أنه لم يحدث في تاريخ العالم أن تترك دولة أسرارها سلعة متاحة للمخابرات الأجنبية مثل ما حدث في السودان عندما حل المجلس العسكري جهاز الأمن، فقد واجهت البلاد مؤامرات خطيرة واستهدافات خارجية، خاصة من إثيوبيا في عهد منقستو والدعم لحركة التمرد وقتها من الدول المجاورة كينيا ويوغندا وزائير وزيمبابوي، حيث كان الجهاز متاحاً في كل هذه الدول، وكان يمتلك معلومات كلها صارت في مهب الريح.
*حيث أن البلد مفتوحة والجاهز مفتوحاً حيث أن (6) من القناصل الإثيوبيين الذين كانوا مجندين في قسم المخابرات المضادة والتي كان يقوده العميد أحمد الجعلي تم اعتقالهم وعرفتهم المخابرات الإثيوبية، وأحد كرد أنهم العملاء الذين كانوا يوصلون المعلومات لجهاز الأمن السوداني، وهذا ينسحب على عملاء كثيرين، انهارت المنظومة الوطنية بأيدي السودانيين أنفسهم، وفي إثيوبيا انكشفت خلية تابعت لجبهة تحرير تقراي الحاكمة، إذ أن جماعة لمس زناوي كانت لديهم صلة وصل بين عناصر جبهة تقراي الموجودة وبين عناصرهم في أديس أبابا اكتشفت عبر الرسائل، وهذا أدى لكشف العناصر في أديس أبابا أيام منقستو وتم القبض عليهم وإعدامهم، ومن الأشياء السالبة أيضاً أن التقارير التي كانت تنصب لرئيس الجمهورية بمختلف النشاطات أصبحت مكشوفة، وأصبح هنالك خلل أمني كبير، حيث أن القواعد الأساسية للأمن هي أن تؤمن مصادر المعلومات في ساعة الشدة، ولكن بعد حل الجهاز أحجم عدد كبير من الذين يعملون في السفارات من التعامل مع جهاز الأمن بحجة أن وضع الجهاز أصبح غير مضمون ويمكن أن يتكرر ما حدث، ويشير اللواء عثمان السيد إلى أن حل الجهاز أفقد البلاد خبرات نادرة سواء كانوا أكاديميين أم عسكريين أم من الشرطة وأساتذة الجامعات، حيث أنهم تلقوا تدريباً في الاتحاد السوفيتي وألمانيا وأمريكا وألمانيا الغربية، وهم مخازن وأسرار للمعلومات، كل هؤلاء تشردوا.*
حرب الملفات القذرة
وإزاء تسرب ملفات أسرار الجهاز حاول البعض تشويه خصومهم بإلصاق تهم بالانتماء إلى جهاز الأمن الأمر الذي سبب خطراً على المجتمع وخاصة وسط المواطنين الأبرياء مما دعا المجلس العسكري الانتقالي لإصدار بيان أصدره حول القوائم التي يتم توزيعها وتتهم بعض الشخصيات بالانتماء لجهاز أمن الدولة المنحل أكد أنه لا يحق لأي شخص أن يوزع أو يعلق قوائم تتهم الغير وكان نص البيان على النحو الآتي: لقد تبادر إلى علم المجلس العسكري الانتقالي بأن هنالك عدداً من المواطنين يوزعون قوائم تحتوي على أسماء بعض الشخصيات متهمة إياها بالانتماء إلى جهاز أمن الدولة المنحل إضافة إلى عملهم الأساسي، ولما كان المجلس العسكري لم يخول أحداً بتقديم أو توزيع مثل هذه القوائم ولما كان تقدير ومُرد وكيفيته نشر هذه الأسماء هي من صلاحية هذا المجلس، وأن مثل تلك الاتهامات لا تقود إلى البلبلة والفوضى وبذر الغل في النفوس فإن المجلس يود أن يشير إلى الآتي:
1. لا يحق لأي شخص أن يوزع أو يعلق قوائم تتهم الغير بمثل هذه الاتهامات التي لا تقوم على دليل ولا تستند إلى تمويل والتي تسئ بغير حق للأبرياء.
2. لقد ارتضينا جميعاً أن يكون القانون هو السيد والفيصل وعليه لا يحق لأي أحد أن يأخذ القانون بيده ليشوه وجه غيره، أو يصفه بصفات لا تليق، لذلك فإن من الأوفق أن يتقدم للسلطات المختصة كل من يعتقد أن لديه معلومات عن شخص أو أشخاص أفسدوا الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية حتى يأخذ القانون مجراه.
3. إن المسلك القائم على دفع حركة التقدم بمزيد من الإنتاج والعمل يمكن أن تهزمه مثل هذه الاتهامات والتي يمكن ألا يسلم منها أي شخص مهما كان قدره، شرفه وأمانته.
وأختتم البيان بالآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) صدق الله العظيم.
No comments:
Post a Comment