دروس في إعادة بناء المؤسسات في حالات ما بعد النزاع: حالة ليبيريا
————————
بقلم: عمارة محمد كوني . ترجمة: د عيسى حمودة
مقدمة
نظم الحوكمة والمؤسسات هي بمثابة برامجيات التنمية software، مما يعني ان المواطنين لا يلمسونها ويشعرون بها كما في البني التحتية الصلبة. وعلى الرغم من أننا أحرزنا تقدما هائلا في إعادة بناء المؤسسات المدمرة والفارغة كما البطن المنتفخة، فإنه من غير العدل تجاهل الفرص التي أضاعتها حكومة السيدة ايلين جونسون سيرليف. دعونا نواجه الحقيقة: لم نتبع ونغطي كل اساسيات التنمية التي وضعناها في بداية تسلمنا الأمر. كانت معظم التحديات تكيفية أي تتطلب تغييرات في السلوك البشري، بينما ركزنا نحن في الغالب على تقديم حلول فنية وتقنية. هنا أقدم بعض من الدروس المستفادة في بناء النظم والتي من حسن الحظ بمقدورنا (يقصد حكومة الرئيس جورج ويا) أن نعالجها ونطورها.
الدرس الاول #1: لا تترك شيئا للصدفة عند بناء المؤسسات.
من أجل تطوير المهارات استثمرنا بكثافة في تدريب موظفي الخدمة المدنية والمهنيين الطموحين. تم ذلك وبدعم من شركائنا الدوليين في التنمية، خاصة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. مثلا نفذنا مشروع تنمية القدرات الوطنية الذي ساعد في تحديد أماكن النقص في قدرات ومتطلبات الخدمة المدنية والعمل على سد النقص. قمنا بتمويل التعليم العالي والدراسات العليا، وعلمنا على الحصول على المنح الدراسية للآلاف من الليبيريين التي غطت كل مجالات القطاع العام - من نظم الادارة إلى هندسة البتروليات. كما دعمنا التدريب الداخلي من خلال إلحاق الموظفين بمعهد ليبيريا للإدارة العامة (LIPA) للحصول على شهادات في العديد من التخصصات- إدارة الموارد البشرية، المشتريات العامة، إدارة المشاريع، الرصد والتقييم، تمويل القطاع العام وإعداد الميزانية، وغيرها.
ولكن لم نواظب على التخطيط، ونحن نسير على طول طريق البناء، حتى النهاية. مثلا لم نضع في الحسبان حاجة كل مستفيد لموضع ومسار وظيفي واضح يسمح بالاستفادة من خبراتهم المكتسبة - سواء في القطاع الخاص أو الحكومي. كانت مخاطرة لبعض الموظفين ترك وظائفهم للحصول على درجة الماجستير وبعد عودتهم لم تكن هناك أي ترتيبات للاحتفاظ بهم أو ترقيتهم أو مكافآتهم بصورة جيدة. أدي ذلك إلى أن العديد منهم تحت أوضاع غير ملائمة لمهاراتهم واهتماماتهم الجديدة، وأدى ذلك إلى شعورهم بالإحباط وضياع جهودهم وما يمكن أن يحدثوه من تطوير وإبداع.
الدرس الثاني #2: النظم والهياكل والمرتبات
علي عكس ما ظل حدث أبان سنوات الحرب والصراع، حين كانت الخدمة المدنية منتفخة وفشلت الحكومة وقتها إلى حد كبير في دفع مرتبات العاملين، وضعت إدارة إيلين جونسون من أولوياتها الرئيسية تسديد المرتبات في وقتها المحدد. وأشكر وزيرا المالية اللذين سبقاني - الدكتورة أنطوانيت سيه والسيد اوغسطين نغافوان -على وضع الأساس لذلك. بنى فريقي على ذلك الأساس وقمنا بتنظيف قوائم الدفع بإزالة الأسماء الأشباح وأنشأنا نظام معلومات لإدارة الموارد البشرية (HRMIS) وسجلا مدنيا رقميا لموظفي الخدمة المدنية. واضطرت مستشارة الوزارة التي قامت بعملية تنظيف كشوف صرف المرتبات، وهي أميركية مولت تكاليفها الوكالة الأمريكية للتنمية، إلى مغادرة البلاد بعد تلقيها عدة تهديدات بالقتل.
وبسبب محدودية الموارد لم يكن باستطاعة الحكومة دفع أجور جذابة تنافس القطاعات الأخرى، لكن ساعد شركائنا في التنمية بسخاء في دعم أجور العاملين. ابتداء من عام 2006، عمل برنامج مثل برنامج الخدمات التنفيذية العليا على جذب المهنيين والكفاءات من الليبيرين بالخارج للعمل في المناصب الإدارية الرئيسية، كما ساعد برنامج توكتن TOKTEN في نقل المعرفة من خلال جذب المغتربين.
ولكننا لم نحرز تقدما يذكر في هيكلة وتبسيط الخدمة العامة وظللنا مقيدون لمدة 12 عاما (طوال فترة إدارة الرئيسة إيلين) مع نظام خدمة مقعد يتسم بكثير من مع الروتين والخطوط الحمراء والمعاملات اليدوية (غير المحوسبة)، مما أدي إلى مزيد من تضخم في أعداد القوى العاملة. كان من الممكن أن نعالج ذلك بمزيد من الاستثمار في التكنولوجيا وتمويل الخبراء في إصلاح المؤسسات. مثلا لو عملنا على مراجعة المهام والواجبات لأمكننا معرفة أوجه القصور في الأداء الوظيفي ولأعملنا مبدأ الشفافية مما يقلل الممارسات الشائهة من بعض الموظفين. وكان من شأن ذلك أيضا أن يساعد في تحديد العدد المناسب من الموظفين، يوائم ما بين مهارات الموظفين ووظائفهم بشكل علمي مناسب، ويخلق وفرة تستخدم في زيادة المرتبات. قمنا بعمل ذلك في وزارة الصحة، ووزارة الشؤون الاجتماعية والجندر والأطفال - وهي مجالات هامة. ولكن كان علينا أن نقوم بذلك في كثير المؤسسات الأخرى. كانت هيكلة ودمج وزارتي التخطيط والشؤون الاقتصادية والمالية في وزارة واحدة هي المالية والتخطيط التنموي وضم هيئة الإيرادات (الضرائب) لها - عملية صعبة ومكلفة محفوفة بكثير من المخاطر السياسية. نجونا من عواصفها ونجحنا بسببها بتخفيض القوي العاملة بأكثر من النصف. بقدر تحدياتها وإرهاقها لكن كان إنجاز يستحق ذلك.
الدرس الثالث #: التاريخ والثقافة
لم نعطي اعتبارا كافيا للآثار السلبية التي يمكن يلعبها التاريخ والثقافة على استراتيجيتنا الإنمائية بأكملها. كنا نحاول قيادة خدمه مدنيه مليئة بالأفراد الذين صدمتهم الحرب، وكان العديد منهم لا يزال همهم البقاء أحياء بعد فترة طويلة من العيش في ظل الحرب. لم نحفر عميقا بما فيه الكفاية لتحديد ما هي الحوافز التي تساعد الموظفين عل استعادة شعورهم بالأمن والكرامة التي من شأنها أن تحسن من أدائهم. وقد أدى ذلك إلى الكثير من عدم الاستقرار على المستوى السياسي. مثلا عمل بعض موظفي الخدمة المدنية، الذين شعروا تهديدا لمواقعهم بقدوم قيادات جديدة في بعض المرافق، على الإضراب عن العمل أو حتى الممانعة والتماطل في تنفيذ القرارات إلى أن يتم طرد المسؤول عن المرفق بدعوى عدم قدرته على تحقيق تقدم. ومن الأمثلة على ذلك انتقالي إلى وزارة المالية في 2012 لم يكن بعض الموظفين سعيدين بقدومي، بذلت مجهودا كبيرا للعمل معهم حتى تم قبولي من قبلهم، وذهبنا لننجز معا وجعلنا الوزارة واحدة من أكثر المؤسسات فعالية، بنينا على ما وضعه من خلفتهم في الوزارة – الدكتورة أنطوانيت سيه والسيد أوغستين نغافوان. سيحكي لكم الموظفون بالوزارة عن هذه التجربة بصورة أفضل مني. أصبحنا ليس فقط فريق عمل ولكن أسرة واحدة تقريبا. لكن بسبب هذه العوامل - التاريخية والثقافية - شهدت بعض المؤسسات تغييرات متتابعة في قياداتها مما أبطأ إحراز تقدم في القطاعات الرئيسية في الدولة.
وعلاوة على ذلك، فإن الخدمة المدنية في فترة ما بعد الحرب، وبسبب عقد من الحرب الأهلية حرموا مقارنة بنظرائهم في المنطقة من الارتقاء بمهاراتهم وسلوكهم الوظيفي. وحاول الذين عاد منا من الخارج أن يبثوا أفكارا جديدة ولكن قوبلوا بالاستياء والمقاومة من بعض زملائنا الذين لم يحالفهم الحظ في مغادرة البلد. أيضا سيكون من الخطأ عدم الاعتراف بأن البعض منا - نحن العائدين إلى الوطن والذين تولوا مناصب سياسية وفنية - كان في بعض الأحيان متغطرسا ونحن نعمل على إحداث التغيير. وزاد هذا من التوتر والاحتكاك. لكن الآن، وبعد عقد من الزمن، يبدو أن هذه الاحتكاكات قد قلت - مع استفادة المزيد من المواطنين في الداخل من فرص التدريب التي ذكرتها في الدرس رقم #1، ومع تعلم العائدين من الخارج التواضع كأحد فنون القيادة الجيدة.
قد يستغرق إعادة بناء مؤسسة خدمة مدنية واحدة أكثر من عشرين- وهذا أطول بكثير عمر أي حكومة منتخبة. وبسبب الحرب، قد تأخرنا عن مواكبة التطور في دول غرب إفريقيا على الأقل. لكن الجانب الإيجابي هنا هو الاستفادة من تجربتنا في بناء المؤسسات في السنوات الخمس عشر الماضية مع التعلم من التقدم الذي أحرزته بلدان أخرى القفز إلى المستقبل. إذا أنتهز هذه الفرصة وبنينا على ذلك - بدلا من توجيه أصابع الاتهام لمن سبقونا - يمكننا أن نقود القارة الأفريقية في تقديم نموذج لما يعرف بالحكومة الذكية والرشيقة والفعالة. و الخيار- كما هو الحال دائما - متروك لنا!
مرفق هنا: خريطة توضح تغطية استخدام الموبايل في تحويل النقود التي ادخلناها في ليبيريا، بالتعاون مع الوكالة الاميركية للتنمية ، لدفع مرتبات المعلمين والعاملين الصحيين في المناطق الريفية حتى لا يضطروا للسفر لأميال بتكاليف إضافية تنال من مرتباتهم الهزيلة أساسا.
+++++
*عمارة محمد كوني - وزير المالية والتخطيط الاقتصادي الأسبق بدولة ليبيريا. يعمل حاليا بالبنك الدولي مسؤولا عن برنامج البنك في أوضاع الهشاشة وعدم الاستقرار والنزاعات.
** د. عيسي حمودة
- خبير في الصحة وإدارة المشروعات والبرامج الصحية. يعمل بمكتب الأمم المتحدة للمشروعات بأسيا.
eisa.hamouda@gmail.com
No comments:
Post a Comment